الخميس، 19 أبريل 2012

صناعة الدكتاتور



تفتقر بلادنا العربية الى الصناعات الحديثة مقارنة بالغرب، هذا واقع لا نقاش فيه، وان لم يعجبنا، بالمقابل فهي غنية بصناعات تقليدية، ولو انها تشهد ضمورا ايضا، الا ان صناعة واحدة ما تزال قادرة ان تكرر نفسها بقوة دون ضمور، وهي صناعة الدكتاتور. انها صناعة "وطنية" بشعاراتها، وهي شعبية من الدرجة الاولى لأن غالبية الشعب مشارك في عملية انتاجها وهو المستهلك الاكبر لما ينتجه، وهي تقليدية ايضا من الدرجة ما قبل الاولى، لأن كل هذه العولمة ومنها تقارب الشعوب وتبادل المعلومات والخبرة ، لم تستطع تغيير اسس هذه الصناعة العربية بامتياز. وليفرح اصدقاء امريكا هذه المرة لانني أبرئ الاستعمار من تهمة صناعة الدكتاتور العربي، لا تعبيرا عن حقيقة موضوعية، بل امعانا في النظر الى الذات قبل توجيه اصبع الاتهام الى الآخرين.

لماذا اقول هذا؟ وعلى أي حقائق او معلومات أعتمد؟  للاجابة على هذا السؤال، لا بد اولا من الاجابة على أسئلة أخرى: هل حكامنا العرب  دكتاتوريون؟  نعم. وهل جميعهم عملاء للاستعمار؟ لا. ولماذا لم نستطع تغييرهم، عملاء وغير عملاء، على مدى عقود طويلة وما نزال عاجزين؟ هل الوزراء والنواب ورؤساء الاحزاب ورؤساء البلديات المدينية والقروية، والمحافظين ورؤساء النواحي والقطاعات المختلفة في البلدان العربية المختلفة والموظفين الكبار او الصغار، واصحاب الشركات و.. و.. و ... دكتاتوريون في مواقعهم؟ نعم. هل نحن ديموقراطيون حتى في اسرنا الصغيرة؟ لا. أليس القمع والعنف ظاهرة متدحرجة من أعلى الى أسفل وهي نهج حياتنا في كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ الا نلاحظ هذا النهج في تدحرجه اللانهائي؟  اليس هذا حالنا؟

 فجأة، نرى الحاكم العربي قويا حازما آمرا ناهيا قاضيا معاقبا وكأنه أُنزِل من فوق، وفي لحظة أخرى نراه نعجة او ناقة مطيعة يقودها أصغر موظف في الادارة الأمريكية، ولكنه لا يتورع ان يسمي طاعته حكمة، وهي حكمة العاجزين طبعا. هذا السلوك المتناقض ينطبق على الجميع في كل المستويات حتى يصل الى الاسرة الصغيرة، طبقا للمثل الخليجي القائل: "والدي ما يقدر الا على أمي". ليس الحاكم فقط، وليس الوزير او الموظف الكبير فقط، بل ترى الرجل العادي الذي قضى نهاره ذليلا لرئيسه في العمل مهانا مسلوب الارادة والكرامة، يقضي يومه بالنفاق والاعتذار والاستئذان ومسح الجوخ او حتى مسح الاحذية، يعود الى بيته مساء فيتحول الى وحش كاسر ينهش كرامة زوجته او ابنائه وبناته باسم رجولته وكرامته، فكيف يستحضرها على وجه السرعة؟ وأين غابت هذه الرجولة وتلك الكرامة طيلة النهار يا ترى؟ ولماذا تغيب دائما مقابل من هو اقوى منه؟ واذا افترضنا ان للاستعمار دور كبير في صناعة الحاكم الدكتاتور وحمايته، وهو كذلك وليغضب اصدقاء الاستعمار، فهل يتدخل الاستعمار في انتخاب رئيس بلدية او تعيين مدير شركة او في سلوك الزوج تجاه ابناء أسرته؟ وهل يتدخل الاستعمار ايضا في تشكيل لجنة شعبية تؤطر ناشطين مختلفي الانتماءات ضد التدخل الاستعماري في بلادنا؟ ام ان هناك مشكلة ذاتية وتراث او موروث اجتماعي مريض يجب معالجته؟ هنا يجب ان نتوقف!! ونتوقف كثيرا!!  وننظر الى المرآة بشجاعة لنغير، اليس تغيير النفوس سابق لتغيير الواقع؟

ان ما يقلق حقا هو ما يعشعش في النفوس ويظهر في السلوك، هو الحاجة  النفسية الخفية او الطموح لإلغاء الآخر او اقصائه، والرغبة غير المبررة في شخصنة المواضيع والمشاريع والأهداف، وعدم القدرة على رؤية  الهدف المشترك والاتفاق حوله واستبعاد الاهداف المختلف عليها. فترانا نتفق على ما لا نريد، ولكن، هل نتفق على ما نعم نريد؟ قد نجد فريقا يعمل سويا فنحسب ان ما يجمع هؤلاء المختلفين هو هدف مشترك او مشروع عمل مشترك، وفجأة تجدهم متحدين ومتفقين على ما يردون الغاءه، لا على ما يريدون بناءه، متفقين على الهدم دون ان يكون لهم أي مشروع بناء مشترك. وحين يختلف الفرقاء اوالافراد ينسوا ان الاتفاق على هدم ما هو قائم لا يكفي للحفاظ على الوحدة المطلوبة دون وجود مشروع بناء مشترك أيضا، وينسوا ان اختلاف الناس بمواقفهم وسلوكياتهم هو الامر الطبيعي، وان لا طبيعة من غير اختلاف وتعددية، وان التعددية في الاطار الواحد لا تزيده الا غنى وان الاختلاف بين الاشخاص لا يمنعهم من الاتفاق على الموضوع، فلماذا يتغلب الشخصي على الموضوعي في مجتمعاتنا؟

يلاحظ كل مراقب موضوعي ان هذه النفسية الالغائية لا بد ان تقود الى صراع عبثي، الذي يتحول بسرعة الى صراع شخصي، وفجأة تتحول الأنا المقهورة الذليلة والمهانة أمام الاقوياء الى انا متكبرة متعجرفة قمعية تجاه الشركاء الضعفاء، ويتكرر الامر في دائرة لا نهائية، ويبدو من الصعب ان تجمع بين الفرقاء، الاشخاص، لتحقيق الهدف المشترك، وهنا تبرز الحاجة الى القيادة، قيادة الجميع، على اختلافهم، لتحقيق هدف مشترك، ويبدو الامر اكثر صعوبة وتعقيدا اذا ما تقدم الى هذه المهمة شخص عقلاني لا ينوي إقصاء أحد، فيبدو في نظر الفرقاء ضعيفا لأنه لا يلبي طموحات أي منهم،  وتكون النتيجة ان يتقدم بدلا منه الشخص "القوي"، وقد يكون خارج كل الفرقاء، ليضبط الامور المنفلتة وينهي حالة الصراع العبثي، وبدل ان يعطي لكل صاحب حق حقه ومكانه الذي يستحق، تكون النتيجة ان يلغي او يقصي هذا "القوي" جميع الفرقاء والافراد المختلفين، ويكون هو صاحب القرار الوحيد والآمر الوحيد، وقد يكون هذا "القوي" هبط على جميع المختلفين من فوق بقوة من هو اقوى منه. أما الغريب العجيب هو قبول جميع الفرقاء بحكم هذا "القوي" حتى لو ادى الى اقصاء الجميع، وسخرية الامر ان يرى كل فريق نفسه منتصرا بحكم اقصاء خصمه دون الانتباه او الاهتمام بإقصاء ذاته أيضا، ويقول: "من ساواك في الظلم فما ظلم" هل حقا؟ اليست هذه حال أمتنا وحكامنا وأحزابنا ومؤسساتنا...... حتى لجاننا الشعبية التطوعية؟ ويتجسد ذلك في مجتمعاتنا بأبشع صوره حين يسعى الافرقاء الاشقاء، الحلفاء افتراضا، للاستقواء بطرف ثالث، غريب ضد بعضهم البعض، فيكون الاجنبي هو الحاكم اللاكم، الآمر الناهي، القاضي والمعاقب، المحرم والمحلل، الواهب والناهب لخيرات أمتنا.  اليست هذه هي تقاليد حكام بلادنا العربية؟  اليست هذه مأساة مجتمعاتنا بكل المستويات؟ السنا نحن من يصنع هذا الدكتاتور الكبير او الصغير في الدولة او في الحي؟   السنا نحن من يستدعي الأجنبي؟ وهل يتحقق العدل فيما بيننا بممارسة الظلم بالتساوي؟
اقول هذا جازما، لا رغبة في جلد الذات، بل نقدا ذاتيا لا بد منه وان كان معيبا لهذا المجتمع الكبير الذي انتمي اليه. ولكل من يخالفني الرأي ان يفحص محيطه القريب، وعلى كل المستويات، من مستوى الامة العربية، او الوطن، صغيرا كان ام كبيرا، الى مستوى المدينة والقرية وحتى الاحزاب واللجان الشعبية القطرية او المحلية. ألم يحن الوقت بعد ان نستذكر ذلك القول العربي الأصيل: "رأيي صائب ويحتمل الخطأ ورأيك خاطئ ويحتمل الصواب"؟  الم تعلمنا التجربة المريرة بعد، أن نقبل الآخر، الشقيق او الرفيق او الشريك، بما هو عليه من اختلاف، فنعمل سويا بما اتفقنا عليه، ونبقي جانبا ما اختلفنا عليه؟ ألم يحن الوقت لترى ان هناك متسع للجميع على اختلاف آرائهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم وأجناسهم وأعمارهم وثقافاتهم  و...و... وحتى مصالحهم؟  ألم نخلق مختلفين؟؟؟ اذن، كيف لا يكون اختلاف الرأي مفهوما ومقبولا؟  لماذا نقبل ان يلغينا ذلك الدكتاتور جميعا، ولا نقبل ان نعطي للآخر، الشقيق او الشريك او الرفيق، متسعا في هذه المساحة المشتركة؟ لماذا يبقى همنا الاكبر هو الغاء الآخر وان كان الثمن هو الغاء الذات؟ بدل الاعتراف بالآخر، الشريك في الهم والهدف والمصير، وبشكل متبادل؟  السنا نحن من نصنع الدكتاتور؟


 



اليف صباغ

مدونة حيفا برس 19.4.2012




حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق