الخميس، 8 مارس 2018

]دروس وعبر بين اعلان بلفور واعلان ترامب



         بين اعلان بلفور وإعلان ترامب، دروس وعبر  

مائة عام مرت وأجيال توالت ولم يتعلم العرب أي عبرة مما سمته الحركة الصهيونية "وعد بلفور".  تناول المحللون والمؤرخون والسياسيون خلال الأسبوع الأخيرهذا "الوعد" ، بكل تفاصيله المعروفة وغير المعروفة. هل هو اعلان ام تصريح ام وعد؟ هل قُدم الى وايزمن أم الى البارون روتشيلد؟ هل تحدث عن دولة يهودية ام عن وطن قومي؟ وما الفرق بينهما؟ لقد طلب روتشيلد من الحكومة البريطانية ان تعطي بريطانيا فلسطين "لليهود"، ولكن التصريح تحدث عن "وطن قومي "للشعب" اليهودي في فلسطين" !  هنا تحدث بلفور عن "شعب" يهودي، وهناك من يدعي ان بلفور قصد جزءًا من فلسطين، وليس كلها، كما طالب روتشيلد.  كلها تفاصيل شكلية قد تهمّ المؤرخين الذين يكتبون للتاريخ فقط. ولكن لماذا تهمّ الناس ؟ ولماذا تهم السياسيين بالذات إن لم يكونوا من الكسالى؟ وماذا عن القضايا الجوهرية لهذا التصريح ، والتي يجب ان تهم كل واحد فينا؟ أهدافهُ، والظروف التي سمحت بإطلاقه، وكيف تم تنفيذه؟ ولماذا فشل العرب في منع تحقيقه؟ فهل تعلمنا الدرس أم اننا باقون على المنوال نفسه. نُولوِلُ وننوحُ ونستنكرُ ونشجبُ  ؟  
هل ننسى من العِبر ان بريطانيا بحثت عن مصالحها الاستعمارية قبل ان تبحث عن مصلحة اليهود، وأن روتشيلد لم يفكر بالفارق بين اليهود والشعب اليهودي، كما أن بلفور لم يفكر بفلسطين كلها او جزء منها، ولم يتحدث عن الفارق بين وطن قومي ودولة؟ بل كان همه المصالح البريطانية قبل كل شيء، وكيف يحد من النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط ويبعدها عن قناة السويس، الممر التجاري والعسكري، الدولي والاستراتيجي بالنسبة للإمبراطورية الكونية البريطانية؟ هذا هو ألأساس الذي انطلق منه اللورد بلفور، وليس ايديولوجيته "المسيحية المتصهينة"، او "مكافئة" للبارون روتشيلد او الدكتور وايزمن، كما يروج الصهاينة. فالدول الكبرى تفكر بمفاهيم الدولة لا بمفاهيم الشخص، تبحث عن مصالحها، وتستخدم القوى الأخرى أدوات لها، وهكذا رأت بريطانيا باليهود والحركة الصهيونية ، ليس إلا. وهذا هو الدرس الأول.
اما الدرس الثاني، فيكمن في الإجابة على السؤال، هل كانت لبريطانيا الجرأة ان تصدر تصريحا أو وعدا من هذا النوع، قبل ان تطمئن من الموقف العربي؟ ألم يأتِ وعد بلفور بعد نقاشات عديدة، استمرت عشرات السنين في أروقة المملكة المتحدة، وانتهت بإصدار هذا التصريح بعد مراسلات حسين مكماهون التي وافق بموجبها "الشريف" حسين ان تكون فلسطين وطنا "للمساكين" اليهود، مقابل دعم بريطاني الى آل سعود في إقامة مملكة عربية تابعة لبريطانيا؟ لماذا يغفل الاعلام العربي هذه الحقيقة الجوهرية ويغوص في تفاصيل تافهة؟  الم تتكرر مثل هذه المأساة لشعوبنا العربية منذ مائة عام ولغاية اليوم عدة مرات على نهج المقايضة والتبعية نفسها؟ الم يعمل حكام العرب، منذ مائة عام ولغاية اليوم، من أجل عائلاتهم او انفسهم واشخاصهم، على حساب شعوبهم المقهورة وصاحبة الحق في اوطانها وخيراتها؟
والدرس الثالث، كيف تحول هذا التصريح الى التزام دولي، من خلال تضمينه مركبا أساسيا من وثيقة صك الانتداب البريطاني على فلسطين؟ كيف تجرأ العالم على ذلك دون الاخذ بالاعتبار امة عربية بلغت عشرات الملايين آنذاك، وتعيش في أهم المناطق الاستراتيجية في العالم؟ وأمة إسلامية بلغت مئات الملايين من البشر؟ وتشكل فلسطين أولى قبلتيها والحرم القدسي ثالث الحرمين الشريفين في عقيدتها؟ وهل كان ذلك ممكنا لولا اطمئنان العالم للقبول العربي الاسلامي الذي تمثل باتفاق وايزمان، رئيس الحركة الصهيونية، مع فيصل ابن "الشريف" حسين، في مؤتمر باريس للسلام عام 1919  ، بقبول العرب ان "تعطى لليهود تسهيلات لإقامة مجتمع يهودي في فلسطين"؟ والإقرار بوعد بلفور. اليس هذا القبول، هو الخنجر السعودي الثاني الذي طعن به آل سعود طموح وأماني الشعب الفلسطيني للسيادة في وطنه؟ اليس من الأجدر بنا ان نتعلم هذا الدرس بدلا من الدخول في تفاصيل تافهة؟
فوق هذا وذاك، كيف بنت الحركة الصهيونية مدينة القدس الغربية منذ بداية الانتداب البريطاني وحتى نهايته؟ الم تكن البطريركية اليونانية صاحبة الأراضي الأكبر في حدود مدينة القدس وغربها آنذاك، هي من سهلت بناء المدينة اليهودية من خلال بيع أراضي الكنيسة، وهي ليست أرضا يونانية، الى الحركة الصهيونية وحكومة الانتداب، فسهلت بناء المدينة اليهودية التي تحولت الى عاصمة لإسرائيل؟ لقد قامت البطريركية اليونانية، وليس الكنيسة الارثوذكسية العربية، بين الأعوام 1921 -1925 ببيع اكثر من 1120 دونما في حدود القدس  واكثر من 22 الف دونم غربي القدس، (وصلت حدودها الغربية الى دير المصلبة فقط، ويقع هذا الدير في وسط المدينة الغربية اليوم)، وكانت للحركة الصهيونية حصة الأسد من هذه الصفقات، لتقيم مدينة جديدة حولتها لاحقا الى عاصمة. الم يحدث ذلك بالتنسيق بين حكومة اليونان الموالية لبريطانية والحركة الصهيونية؟ أمام بصر وسمع الزعماء العرب وعلى رأسهم أل سعود الذين حكموا الحجاز والعراق وسوريا وشرقي الأردن آنذاك، ولأجل حماية مصالح العائلة "الهاشمية" لا غير؟  كيف يمكن الا نستذكر تلك الحقائق التاريخية، في حين تقوم البطريركية اليونانية في القدس اليوم باستكمال المشروع الصهيوني لتهويد ما تبقى من القدس، ويفعل ذلك ثيوفيلوس الثالث، بصفته "بطريركا"، بحماية دولية وعربية هاشمية، ولكن الأنكى من ذلك هو الصمت الفلسطيني المشبوه؟
طالما كانت هناك مؤامرات استعمارية حقيقية وليست "خيالا شرقيا" على شعوبنا العربية خلال القرن الماضي وما تزال الى اليوم، ولكن أيا من هذه المؤامرات لم يكن ليتحقق لولا التعاون الرسمي العربي، ولولا الاستسلام العربي العام ، وكأن ما خططت له الدول الاستعمارية هو قدر من السماء لا بد من حصوله، وهذا هو الدرس الأهم في ذكرى وعد بلفور.
لقد آمن العرب عامة والمسلمون خاصة بان إقامة إسرائيل هو تحقيق لوعد الله الخرافي، والذي جاء في التوراة والقرآن على حد سواء، فصار وعد بلفور تحقيقا لوعد الله. استسلم العرب للمؤامرة على فلسطين بترويج مقولة كان لها الأثر الكبير على نفوس الفلسطينيين وهزيمتهم عام 48، "قضية فلسطين مبيوعة"، او "حكام العرب باعوا فلسطين"، و"البلاد ُسُلّمت من زمان"... الخ.  فكيف يقاتل من اقتنع بعجزه وانه لا أمل في القتال؟ هذا الاستسلام العربي السابق لمخططات الدول الاستعمارية، والترويج للعجز القدري، هو هو المرض العضال الذي يفتك بالأمة منذ مائة عام وهو مستمر لغاية اليوم، وهو مرض موروث في الجسم العربي من تراث الهزيمة والخنوع للسلطة الحاكمة الدموية خلال اربعمائة عام من الحكم العثماني. هذا ليس مرضا وراثيا، وان أصبح  للامراض الورائية علاج لدى الشعوب الحية، ولكنه موروث نفسي لا بد من تشخيصه والكشف عنه. وحري بنا ان نتعلم من الشعب السوري وقيادته وجيشه، الذي لم يستسلم للمخططات الاستعمارية، ورفض ان يعتبرها قدرا من السماء، حتى وان ضخّت لها الرجعية العربية بكل أموالها وشبابها ودمائها وفقهائها ووسائل اعلامها، وجعلت من الدين الإسلامي أداة مرنة لتحقيق ذلك.  سوريا لم تستسلم "للقدر" بل رأت بان الله يحمي من يحمي نفسه أولا، وان المؤامرات ليست قدرا من السماء، وان مقاومتها واجب ديني وقومي واجتماعي ووطني وانساني على حد سواء، وان المقاومة حق وواجب وهي قدر الشعوب الحية الحقيقي.. وهذا هو الدرس الأساس الذي يجب ان يناقشه الجميع ويتعلمه العرب في الذكرى المئوية لوعد بلفور،  وهو الدرس الأساس الذي يجب تعلمه لمقاومة وعد ترامب، والا عادت الوعود لتحقق ذاتها وعاد العرب يستنكرون ، ويندبون قدرهم، ومرت المخططات كما ارادوها لنا.


اليف صباغ/ الجليل 8/3/2018 


حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق