لا بدّ من كشف المستور !
اليف صباغ 10.10.14
بالأمس إلتهمت، على وجبة واحدة تقريبا، كتابا
هاما وصلني مساء أمس الأول من امريكا وعنوانه: "لمحة تاريخية في اخوية
القبر المقدس اليونانية". يتكون
الكتاب من 161 صفحة، ألفه الاسقف العربي السوري، الراهب الثائر رفائيل هواويني
(1860-1915)، ولكنه طُبِع ونُشر في بيروت عام 1893 باسم مستعار وهو عبد الأحد
الشافي، أي قبل ست سنوات فقط من استقلال البطريركية الانطاكية العربية عن بطريركية
اورشليم اليونانية.
استعرض الكاتب في مؤلفه حقبة تاريخية هامة في
حياة الكنيسة الارثوذكسية الاورشليمية وانتقالها عام 1534 الى السيطرة اليونانية
الكاملة برئاسة البطريرك جرمانوس، من خلال إقامة ما يسمى بأخوية القبر المقدس
اليونانية، وهو تنظيم داخلي أعضاؤه من اليونانيين فقط، وابتعدت بذلك الرئاسة
اليونانية عن الرعية العربية ومنعت تقدم الرهبان العرب في سلك الكهنوت بل ومنعتهم
من الانضمام الى الرهبانية، والملفت للانتباه انها مستمرة بسياستها المعادية
للرعية العربية حتى أيامنا هذه. يمكن ان يلاحظ القارئ ايضا، ان الرئاسة اليونانية لم
تكن معادية للعرب فقط، بل لكل من هو غير يوناني أيضا، حتى سيطرت بالكامل على
مقدرات الكنيسة المادية، وكان هذا هو جُلّ اهتمام اليونان على مدار خمسة قرون وما
يزال، ومن ذلك الاهتمام المادي لم يتورع الرهبان اليونان عن بيع "صكوك
الغفران"، كما فعلت السلطة الباباوية من قبل، للمؤمنين الذين زاروا الاديرة
المقدسة حتى فضحهم بعض الزوار الروس في نهاية القرن التاسع عشر فتراجعوا عن أفعالهم
هذه بالعلن واستمروا بممارستها سرًّا .
اعتمد الاسقف رفائيل هواويني، فيما كتب، على
ما شاهده بأم عينه وعرفه كشاهد على العصر، كما استعان بمؤلفات عديدة لمؤرخين وباحثين
سبقوه، وقد لفت انتباهي ذِكرُه لكتيّب باللغة اليونانية طبع في القسطنطينية عام
1873 وعنوانه "البلاط البطريركي عار اورشاليم"، لمؤلفه اليوناني
ن.ي.ث. يتحدث فيه عن السلوكيات الاخلاقية للرهبان والراهبات اليونانيين وهي لا
تختلف كثيرا عما نعرفه في أيامنا، ورسائل نُشرت باللغة الروسية ومدونات لشخصيات
دينية يونانية وروسية وغيرهم عاشوا في تلك الفترة ودونوا أحداثا شاركوا بها، وأهمها،
في نظري، حديث الارشمندريت الروسي بورفيريوس مع الوكيل البطريركي المطران ملاتيوس
عام 1844 ، هذه المحادثة، وأسباب حصولها المثير والمعيب للرهبنة اليونانية، ومضمونها،
تؤكد ان الرئاسة اليونانية لم تكن يوما دينية او روحانية، بل سيطرة مادية وعنصرية
على مقدرات الكنيسة الاورشليمية ومدخولاتها مع استمرار إهمال وإذلال الرعية
العربية الى أقصى الحدود.
الانكى من كل ذلك، يشير الاسقف هواويني، كما
اشار من سبقوه، الى منهجية اليونان في تقديم الرشاوى الى الموظفين العثمانيين
وغيرهم بهدف تجنيدهم ضد أبناء الكنيسة العرب، واتهام بعض الرهبان المؤمنين بالجنون
مثل الارشمندريت خريستوفوروس جبارة ومطران زحلة جراسيموس يارد وآخرون، او الاستعانة
برجال العسكرالعثمانيين، مقابل مكافئات مادية، لنقل الرهبان من أماكنهم الى المنفى
البعيد حيث لا يستطيعون التواصل مع أي من أبناء رعيتهم، مع الإمعان في إهمال حاجات
وحقوق أبناء الكنيسة الوطنيين، الأمر الذي جذبهم للانضمام الى الكنائس الغربية،
كما هو الحال في أيامنا.
تكمن أهمية الكتاب في تصوريه واقعا أشبه بما
نحن عليه اليوم في العلاقة بين أبناء الكنيسة الارثوذكسية العرب والرئاسة الروحية
اليونانية، وتدخُّل القوى السياسية لصالح الرئاسة الروحية ضد الارثوذكس الوطنيين، إما
لمصالح سياسية كبرى او مقابل رشاوى مادية تقدمها لهم البطريركية اليونانية. إضافة
الى ذلك، استمالة بعض المنافقين المنتفعين من أبناء الكنيسة العرب بهدف دق
الاسافين بينهم ومنع اي نهضة ارثوذكسية عربية تستعيد حق ابناء الكنيسة الوطنيين في
اديرتهم وكنائسهم ورعاية حياتهم الروحية والوطنية. ولهذا يختتم الراهب الهواويني كتابه
بنداء حار الى ابناء وطنه، يناشدهم فيه ان يتوحدوا لاستعادة حقوقهم وحياتهم
الروحية الحقة فيقول: " فكيف والحالة هذه لا ينفطر قلب كل ارثوذكسي وطني
حقيقي لدى رؤية شراك الهلاك، التي تنصبها لابناء وطنه وكنيسته، اخوية القبر المقدس
اليونانية؟ بل كيف لا تهيج في دواخله عوامل الغيرة الوطنية والحمية الارثوذكسية
عند نظره اختطاف كنيسة آبائه وأجداده من قِبل ذئب خاطف خبيث، وهيهات أن يُستأمن
الذئب الأخبث؟ هذا بعد أن كانت الكنيسة
الانطاكية تفتخر فيما مر من عصور بأحبارها الصالحين ورعاتها الفاضلين واكليروسها
المزيّن بالعلوم والمعارف مثل القديس الشهيد اغناطيوس المتوشح بالله وافرايم
السرياني ويوحنا ذهبي الفم ويوحنا الدمشقي واندراوس اسقف كريت الدمشقي وصفرونيوس
بطريرك اورشليم الدمشقي وغيرهم كثيرون".
الملفت للانتباه ايضا، انه بالرغم من حالة
الإحباط التي عاشها الاورثوكس العرب في تلك الفترة الا ان ايمانهم بحقهم وبالطريق
القويم قادهم الى الاستقلال عن الرئاسة اليونانية المتغطرسة، رغم انف السلطة
العثمانية، عام 1899 ( ست سنوات بعد صدور هذا الكتاب)، باقامة بطريركية انطاكيا
وسائر المشرق، بعيدة عن الحكم اليوناني المستبد. وما يسترعي الانتباه ايضا ان
منهجية الاستعانة بالسلطات السياسية مقابل
رشاوى مادية ما تزال منهجية قائمة، اما سياسة "فرق تسد" واستمالة بعض
المنافقين المنتفعين من ابناء الرعية، فيبدو ان الرهبان اليونان هم أول من انتهجها
وليس الانجليز، لأن الاستعمار واحد مهما اختلفت جنسياته.
على اية حال فنحن نعرف المنافقين ونعرف
المرتشين عندنا ايضا، كبيرهم قبل صغيرهم، وكما كشفنا صفقات العار التي وقعتها
البطريركية اليونانية مع الجمعيات والشركات الصهيونية المختلفة، فلا بد ان نمتلك
الجرأة لكشف المستور، وهو معلوم لنا، عن صفقات العار التي عقدها ثيوفيلوس مع جهات
عربية ايضا، أعلم المخاطر التي قد يتعرض لها بعضنا، ولكننا نمهل فقط ولا نهمل..
---------------------------------------------------
حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق