السبت، 3 مارس 2018

          أوقفوا مجزرة الأوقاف الأُرثوذكسية أو إنْسوا القدس !

يعود الخلاف، بين أبناء الكنيسة الارثوذكسية العرب وبين البطريركية اليونانية، الى نحو 500 عام مضت ، بالتحديد الى عام 1534، عندما استدعى السلطان العثماني بطريركَ المدينة المقدسة عطالله الثاني، الى القسطنطينية ومنعه من العودة الى القدس، وعين بدلا منه المطران جرمانوس، اليوناني، ليصبح بطريكا للمدينة المقدسة وسائر اعمال فلسطين والاردن. وكان هذا المطران متعصبا للجنس اليوناني، فقام بعزل الرهبان العرب واحدا تلو الآخر وتعيين مطارنة يونانيين بدلا منهم، كما قام بإبعاد العرب عن سلك الرهبنة في الكنيسة وحصر سدة البطريركية للرهبان اليونانيين فقط. وازدادت العنصرية اليونانية حدة بإقامة تنظيم اخوية القبر المقدس، وهو تنظيم يوناني عنصري، معادٍ لأبناء الكنيسة من العرب، فاعتبر ان المزارات المقدسة واوقافها تركة يونانية، فقام، بدعم من السلطة العثمانية، بتسجيل أملاك الكنيسة المنقولة وغير المنقولة، كاملة، باسم الامة اليونانية،  وثبّت ذلك في البند الأول من دستور الأخوية، الذي ما يزال ساري المفعول لغاية اليوم. هنا يكمن أساس الخلاف بين الكنيسة المقدسية ، وهي كنيسة عربية، وبين البطريركية اليونانية وهي الادارة العليا للكنيسة. وفي هذا تختلف الكنيسة الارثوذكسية المقدسية عن كل الكنائس الارثوذكسية في العالم، فبطريركية الكنيسة الارثوذكسية في روسيا روسية، وبطريركية بلغاريا بلغارية، وكذلك بطريركية اليونان ورومانيا وانطاكيا ..الخ.  فلماذا اذن يُحرم على الفلسطينيين والاردنيين من إدارة كنيستهم بأنفسهم؟ ولماذا يحتاجون الى زمرة يونانية عنصرية وفاسدة لتحتل كرسي البطريركية المقدسية لتعيث به فسادا وخرابا؟

مع بداية الحرب العالمية الأولى توقف الدعم المادي الروسي للكنيسة الارثوذكسية، هذا الدعم اشترت به الكنيسة أرضا واسعة في القدس والمناطق المجاورة لها، ومع توقف الدعم وتهريب الرهبان اليونان للأموال المنقولة خارج فلسطين، أعلنت البطريركية اليونانية عن ازمة مالية وعجز قدرته سلطات الانتداب البريطاني  ب 600 الف ليرة فلسطينية، ولسداد ذلك أجبرت السلطات البريطانية رئاسة الكنيسة ببيع مساحات واسعة من الأراضي، وبلغت مساحة الأراضي التي باعتها الكنيسة بين أعوام 1921-1925 حوالي 1120 دونم داخل حدود القدس، وكان دير المصلبة آنذاك آخر حدودها الغربية واليوم في مركزها، واكثر من 22 الف دونم خارج حدود القدس، وكان للحركة الصهيونية نصيب الأسد من هذه الصفقات، وقد عقدت شركة الاستيطان اليهودي مع البطريركية اليونانية في تلك الفترة 64 صفقة من أصل 165 صفقة وقعتها البطريركية اليونانية مع جهات مختلفة، منها حكومة الانتداب نفسها. هذه المساحات امتلكتها الكنيسة منذ منتصف القرن التاسع عشر بأموال الدعم الروسية، او أموال تبرعات الحجاج التي تقدم للكنيسة، او ما تم شراؤه بأموال خاصة، ولكنه سُجّل باسم الكنيسة لحمايته من الضرائب العثمانية. هكذا بدأت عملية تسريب الأوقاف الارثوذكسية الى الحركة الصهيونية، وبإشراف المندوب السامي الصهيوني، هربرت صموئيل.
استمرهذا النزيف، واستمرت مسيرة عقد الصفقات بين البطاركة اليونانيين والحركة الصهيونية حتى في ظل وجود البطريركية تحت الحكم الأردني بين أعوام 1948-1967 ولم يختلف الامر بعد احتلال القدس ووقوع البطريركية تحت الحكم الإسرائيلي.
في العام 2005 جرى الانقلاب على البطريرك ايرنيوس بشبهة بيع عقارات وقفية داخل القدس القديمة، باب الخليل، الى جمعيات استيطانية، وبالرغم من انكاره ذلك متّهِما وكيله باباذيموس بعقد صفقات دون علمه، فقد تم عزله وتنصيب ثيوفيلوس الثالث مكانه، ليتبين لاحقا ان ثيوفيلوس اكثر إمعانا في بيع الأوقاف، وبالإختلاف سابقيه، الذين أجّروا الأوقاف للحركة الصهيونية لمدة طويلة تصل الى 99 عاما، يقوم ثيوفيلوس بتحويل هذه الإيجارات الى بيع مطلق، وتتم الصفقات منذ تسلم  ثيوفيلوس سدة البطريركية بوتيرة متسارعة وفي وضح النهار، وكأنه في سباق مع الزمن، مدعيا انه يفعل ذلك باطلاع السلطات السياسية الأردنية والفلسطينية وموافقتهم، ويؤكد هذا الادعاء د. منذر حدادين، كبير مستشاري الملك حسين سابقا، وكبير مستشاري البطريرك اليوناني، في مقال كتبه ونشره في صحيفة الرأي الأردنية يوم 28 تشرين ثاني 2016 ويقول فيه: " لقد اجتمع رؤساء الكنائس المقدسية في عمان عدة مرات وبحضور اللجنة الرئاسية الفلسطينية لشؤون الكنائس واللجنة الملكية لشؤون الكنائس، وبحثوا مصير الأراضي المؤجرة للحركة الصهيونية، وقد اتفق غالبتهم ان لا مفر من بيعها بالمطلق الى الجهات التي استأجرتها في الماضي". وليس غريبا ان يؤكد ذلك أيضا محامي البطريرك ثيوفيلوس الثالث في رسالة وجهها الى المجلس المركزي الأرثوذكسي في تشرين اول 2016 .
لم يتبقى من هذه الأوقاف كثيرا ، ولذلك نشهد في السنوات الأخيرة ان الصفقات التي وقعت في الماضي على انها تأجير طويل الأمد تتحول اليوم الى بيع مطلق ولم تقتصر على القدس الغربية ، بل طالت مناطق في القدس الشرقية وحتى داخل القدس القديمة. كل هذا يحدث تحت بصر السلطات السياسية العربية، القادرة على إيقاف هذه المجزرة بسحب الاعتراف من البطريرك ثيوفيلوس الثالث، كما سحبته من سابقه ايرنيوس، ولكنها للاسف لم تحرك ساكنا. فوق كل ذلك، يتم التصرف بالأملاك الوقفية، تأجيرا أو بيعا، سرا او علنا، لجهات معادية وطنيا وبأسعار بخسة، يمكن مقارنتها بأسعار البضاعة المسروقة  التي يجري تهريبها الى الاسواق. وحين يخشون من الفضيحة يسجلون الشركات التي تشتري العقارات الوقفية المسربة في جزر الكاريبي حيث لا يستطيع أحد ان يطّلع على هوية أصحاب الشركات وتقاريرها المالية، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا جدا. لقد وفرت تكنولوجيا المعلومات الحديثة  لناشطين أرثوذكس، ومنهم كاتب هذه السطور، فرصة وأدوات  للوصول الى وثائق كثيرة جدا تثبت ذلك.
هذا النزيف، كما قلنا، ما زال مستمرا منذ مائة عام وحتى يومنا هذا، بالحجة نفسها، "حاجة البطريركية الى الأموال"، حتى اصبح الأمر يهدد الوجود المسيحي وخاصة الأرثوذكسي في الاراضي المقدسة، ويهدد الحق الوطني الفلسطيني في القدس، بما في ذلك القدس القديمة، مع التذكير ان أحدا لا يعلم اين تودع،  او كيف تصرف هذه الأموال الطائلة، فهل يجوز السكوت عن ذلك؟
هب أبناء الكنيسة الارثوذكسية في فلسطين والأردن للدفاع عن حقوقهم في كنيستهم وأوقافها، وفي الدفاع عن عروبة القدس عاصمة للدولة الفلسطينية، ولم تكن هذه الهبة منقطعة عن مسيرة طويلة من نضال أبناء الكنيسة الارثوذكسية  منذ منتصف القرن التاسع عشر، بل استمرارا لها حتى يومنا هذا.  لقد نبّه المجلس المركزي الارثوذكسي ، في فلسطين والأردن، عام 2005 ، من خطورة انتخاب بطريرك يوناني مجددا لرئاسة البطريركية لأن تاريخ البطاركة اليونان أثبت عداءهم للكنيسة المقدسية العربية، كما اثبت تعاونهم مع كل السلطات السياسية، واهمها سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ضد الحقوق الوطنية والكنسية لأبناء الكنيسة العرب. ليس هذا وحسب، بل نبّه المجلس من خطورة ثيوفيلوس الثالث لتصريحه في اجتماعات سرية مع اللجنة الوزارية الإسرائيلية يوم 11/7/2006 ، ونملك نسخة منها، انه "لا يعارض بيع الأوقاف للصهاينة وانما يطلب اعترافا إسرائيليا بشرعية انتخابه حتى يتسنى له توقيع الاتفاقيات الجاهزة معهم". وعاد ليؤكد ذلك في بروتوكولات محكمة باب الخليل أيضا. ولكن أحدا من المسؤولين الأردنيين او الفلسطينيين لم يلتفت الى تنبيهات المجلس، بل آثروا دعمه السياسي والمادي ضاربين بعرض الحائط مطالب أبناء الكنيسة الغيورين.
في الأشهر الأخيرة تسلسلت فضائح الصفقات التي وقعها ثيوفيلوس، وكشف النقاب عن عدة صفقات بالوثائق الرسمية الموقعة، بما في ذلك تسجيلات الملكية في سجل الطابو الإسرائيلي، وازداد التفاف أبناء الكنيسة الارثوذكسية والكنائس المسيحية بشكل عام حول نشطاء المجلس المركزي، واتسع الاطار ليشمل نشطاء وطنيين فلسطينيين واردنيين من غير المسيحيين، وأحزاب وتنظيمات وطنية فلسطينية واردنية، وانعقد المؤتمر الوطني في بيت لحم يوم الأول من أكتوبر الحالي بمبادرة ورعاية المجلس المركزي والفصائل الفلسطينية كافة، وخرج بتوصيات وقرارات كان أهمها القرار الوطني بعزل البطريرك ثيوفيلوس الثالث باعتباره خائنا للأمانة التي وضعت بين ايديه، وللالتزامات التي وقع عليها، عشية انتخابه، أمام الحكومتين الأردنية والفلسطينية بمنع تسريب الأوقاف ، بل واستعادة ما تم تسريبه.
بالرغم من ان القرار وطنيا شاركت فيه كل الفصائل الوطنية الفلسطينية، الا ان وفدا من دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، توجه في اليوم التالي للمؤتمر، "بتكليف رسمي"، لزيارة ثيوفيلوس الثالث في مقره بالبطريركية "تضامنا معه"، مما ثار حفيظة القوى الوطنية واضطرت دائرة الأوقاف ان تصدر بيانا توضح فيه موقفها، وتشير الى انها وقعت ضحية لمن "كلفها" بهذه الزيارة. كذلك قامت اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس بترتيب زيارة قام بها ثيوفيلوس لرئيس الحكومة الفلسطينية د. الحمدالله، وفي اعقابه أصدر ثيوفيلوس بيانا يدعي فيه ان الحمدالله عبر عن تضامن الحكومة الفلسطينية معه، ولكن، وبعد ضغط شعبي من القوى الوطنية الفلسطينية، أصدرمكتب الحمدالله  بيانا توضيحيا مختلفا عما صدر عن مكتب البطريرك. مع ذلك، اعتبرت القوى الوطنية، في بيانها الاخير، ان أي لقاء يحصل بين جهة فلسطينية رسمية كانت او شعبية بعد اعلان قرارات مؤتمر بيت لحم بمقاطعة ثيوفيلوس، يشكل خيانة وطنية ولا يقبل فيها أي تبرير او توضيح.
تتلخص مطالب أبناء الكنيسة والقوى الوطنية الفلسطينية والاردنية، بما جاء في بيان المؤتمر الوطني في بيت لحم، في الأول من أكتوبر الحالي، وأول هذه المطالب هو سحب الاعتراف من البطريرك اليوناني ثيوفيلوس الثالث، وتقديمه الى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى، وهذه مهمة الحكومتين الفلسطينية والاردنية. وستبقى القوى الوطنية ، بمن فيهم أبناء الكنيسة الارثوذكسية، قوة ميدانية تفضح كل ممارسات البطريركية اليونانية، وقوة شعبية ضاغطة على السلطات السياسية حتى يتحقق مطلب تعريب الكنيسة وطرد الفاسدين منها الى غير رجعة ومحاكمتهم.

اليف صباغ
الجليل الفلسطيني 20/10/2017
عضو المجلس المركزي الأرثوذكسي.




حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق