الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

خطاب الفاتحة لنتانياهو


                       خطاب الفاتحة لنتانياهو

بيبي يريدها دولة فلسطينية بلا سيادة، لا أرض لها ولا جو ولا بحر، اجهزة تحكم السكان وتقمع طموحهم للسيادة والحرية والتطور كباقي الشعوب. هل تقبل الشعوب ان يكون لها دُول من هذا النوع؟
في خطابه أمام الكنيست، عند افتتاح دورتها الشتوية، ليلة أمس، لم يُخفِ بيبي نتانياهو مواقفه واستراتيجيته من قضية التسوية السياسية، بعد ان كان قد كشف عن جوهرها في خطابه الأخير خلال الاجتماع السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة حين قال: يطالبوننا بالانسحاب من المناطق المحتلة، و"هل يمكن ان يحتل شعب أرضه؟"، هذا يعني ان بيبي نتانياهو ومَن والاه، بعد ان حصلوا على إقرار فلسطيني ان حيفا ويافا ليستا محتلتين، واعتراف فلسطيني "بحق اسرائيل في الوجود" على ارض فلسطين، فهو لا يعترف بأن الضفة الغربية محتلة، ومن هنا يمكن ان نفهم لماذا يصر ألا يقدم خرائط لحدود الدولة الاسرائيلية مع الدولة الفلسطينية التي يتحدثون عنها، بل يحق لنا ويتوجب علينا ان نتساءل ما هو مفهوم "الدولة" التي يقصدها بيبي نتانياهو عندما يقول انه لا يريد دولة اسرائيلية ثنائية القومية، وفي الوقت نفسه لا يريد دولة فلسطينية "تابعة لإيران". وما اصرار بيبي نتانياهو على الامعان في الاستيطان في القدس ومستوطناتها، كما في الكتل الاستيطانية الكبرى، والإمعان في تحدي الامة الاسلامية من خلال اقتحام الاقصى وتدنيس المستوطنين لأرضه ونشر الافلام المهينة للمسلمين ، التي تصورها وسائل الاعلام العسكرية نفسها، الا بقصد زرع الاحباط وتكريس الاحتلال في رسالة واضحة لكل مسلم وعربي، ما لكم الا القبول بالامر الواقع، وبان اسرائيل القوية تستطيع ان تفرض ما تريد على امة ممزقة تأكل ابناءها كما تأكل النعاج الربيع الاخضر.
لوحظ ايضا ان نتانياهو قد تبنى مسارا تفاوضيا جديدا يلتف فيه على الطرف الفلسطيني، ويرى ضرورة تحقيق السلام والتطبيع مع الدول العربية قبل التوقيع على اتفاقية سلام مع الشعب الفلسطيني، معتمدا على امكانية تشكل محور عربي من مصر والاردن والسعودية والامارات يتعاون مع اسرائيل، هكذا يرى نتانياهو او يحلم، تارة يتعاونون ضد ايران واخرى يتعاونون مع "داعش" و"النصرة" ضد سوريا، وتارة ضد الاخوان المسلمين او ضد "داعش" ورابعة ضد حماس، ومن خلاله ضد الشعب الفلسطيني عامة، وهذا هو الأهم بالنسبة لإسرائيل، ولْيَنتظر الشعب الفلسطيني حريته قرنا اضافيا....يعلم كل متابع ان هذا المسار التفاوضي ليس جديدا، بل هو اقتراح الجنرال غيورا ايلند رئيس مجلس الأمن القومي، وكان هذا المساء في صلب الاتصالات الاسرائيلية العربية خلال العدوان الاخير على شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، وتبدي الادارة الامريكية استعدادها لقبوله، دون قناعة من اوباما، إذا ما أحست ان العرب يقبلون به ايضا.
بيبي لم يكشف عن اوراقه الحقيقة فجأة، بل سبقه الى ذلك نفتالي بينيت عام 2013 حين تساءل "كيف يمكن لإسرائيل ان تحتل ارض اسرائيل"، نافيا حق الشعب الفلسطيني في ارضه ووطنه. وفي الاونة الاخيرة لم يبخل وزير الأمن، بوغي يعلون، بتصريحات في غاية الخطورة عشية زيارته الاخيرة للولايات المتحدة، حين قال: "ان مهمة حكومة اسرائيل هي إدارة الصراع، وان النتيجة لن تكون باقامة دولة فلسطينية، بل حكما ذاتيا لا يتمتع بالسيادة على الارض ولا في الجو"، اذن ما هي الدولة التي يقبلون بها؟ هل يقصدون اجهزة حكم تدير امور المواطنين فقط؟ على ان تبقى السيادة في البحر والجو والبر في ايدي اسرائيل. نعم هذا هو مفهوم الدولة الفلسطينية من منظار اسرائيلي. فهل فهم المفاوض الفلسطيني ذلك؟ وهل يجوز العودة الى المفاوضات العبثية ام انه من الضروري التوجه بحملة اعلامية وسياسية مكثفة الى شعوب العالم والقوى السياسية الفاعلة، قبل التوجه الى الحكومات الغربية، لفضح الموقف الاسرائيلي بالوثائق والتصريحات المسجلة والمعطيات الحقيقية على الارض، ومن ثم توجيه الاسئلة الضرورية الى الحكومات، المتشدقة بمبادئ حقوق الانسان، هل يوجد شعب في العالم قدم تنازلات لعدوه مثلما قدم الشعب الفلسطيني؟
لم يعد لدينا حاجة لبذل الجهود بهدف تحليل الموقف الاسرائيلي من حقوق شعبنا الفلسطيني في اقامة دولته الفلسطينية المستقلة، كباقي الشعوب، وحقه بالعودة الى وطنه وبيته وأرضه التي هُجّر منها عام 1948 او بعده. لقد تنازلت القيادة الفلسطينية، من خلال "سياسة الاسترضاء" المهينة والفاشلة، عن سيادة شعبنا على 78% من وطنه، وتنازلت عن حق العودة الذي أقرته المواثيق الدولية ليصبح عودة مشروطة بقبول المحتل الاسرائيلي، بموجب مبادرة السلام العربية، وتنازلت عن حق الشعب الفلسطيني بطرد المستوطنين من الكتل الاستيطانية الكبيرة والمستوطنات التابعة للقدس، بموجب قبولها تعديل حدود العام 1967، الامر الذي شجع ويشجع اسرائيل على تكثيف الاستيطان في هذه المناطق دون جهة تردعها، ناهيك عن تنازل القيادة عن المناطق منزوعة السلاح، التي حددتها اتفاقيات الهدنة لعام 1949، مثل الجولان الفلسطيني ومنطقة اللطرون حيث تقام مستوطنات موديعين. هل يوجد شعب في العالم تنازل كل هذه التنازلات لِمَن قتل وشرد أبناءَه؟ ولمن اغتصب ارضه وحريته وتاريخه ومستقبله؟ ومع ذلك فهو في نظر اسرائيل لا يكفي، ولن يكفي....وفي نظر حكومات العالم "المتحضر" يتوجب على الفلسطيني ان ينتظر وينتظر وينتظر ...ويتحلى بالحكمة والرحمة على عدوه "المسكين"!!! الى متى يا الله ؟!!! هل ننتظر قرنا اضافيا؟
قبل ان نطالب العالم بالاجابة على سؤالنا هذا، علينا ان نتحلى بالشجاعة لنجيب عليه نحن، ابناء الشعب الفلسطيني، علينا ان نعترف بعبثية المفاوضات، وعبثية الاتكال على "الراعي" الامريكي، الا اذا كنا قطيعا فعلا ، ولا نستطيع ان نتدبر امورنا دون راعٍ ورأس قطيع يحمل جرسا يدق الى ما نهاية، وان التنسيق الامني تموله امريكا لتفسد القيادات الامنية وتقمع ابطال الحرية من العمل على استرداد حقوقهم المغتصبة. وعلينا ان نعترف ان الاتكال على الحكام العرب كالاتكاء على عصا نخرها السوس الاسود من زمن طويل وان الانقسام هو تغييب للقرار الفلسطيني المستقل.
 اذن، على القيادة الفلسطينية التوجه الى مجلس الأمن بشجاعة لم يعهدها العالم من قبل، لاتخاذ قرارات واجراءات أحادية وملزمة لاسرائيل، على القيادة ان تقول بصراحة، نحن لا نستجدي حق شعبنا، بل نطالب العالم ان يصحح الغبن الذي الحقه بشعبنا على مدار عقود مضت، وان يكفر عن الظلم التاريخي الذي الحقه بشعبنا دون ذنب ارتكبناه، وهذا اقل الواجب المطلوب من كل حكومة وأخرى، بما في ذلك، أو بالذات، الويلات المتحدة الامريكية، وبغير ذلك، خذوا اموالكم وموظفيكم المفسدين، واٌخلعوا عنا هذا التنسيق الامني المُهين، واٌذهبوا الى غير رجعة، وليكن ما يكون.
                                                            -------------------------
اليف صباغ- البقيعة
28.10.14




حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

السبت، 25 أكتوبر 2014

الدين والسياسة في اسرائيل وجهان لحالة واحدة



                    الدين والسياسة في اسرائيل وجهان لحالة واحدة                                                                     


                     انتخابات راف راشي سفردي  وآخر اشكنازي لمدينة القدس سينعكس على الحكومة ايضا

تمر الاحداث السياسية والاجتماعية في شريط متواصل سريع، وقد تمر بعض المشاهد الهامة دون ان نلاحظها، ونقف عن اهميتها، فالانشغال بالعمل ومتطلبات الحياة  يفقد الغالبية القدرة على المتابعة، وكان أحد هذه المشاهد هو انتخاب كبير كهنة المدينة، اي "راف راشي"، لمدينة القدس العبرية،  قبل اقل من اسبوع، ولكن الانفلات الهمجي لقوات الاحتلال الاسرائيلي في القدس العربية، واقتحام الحرم القدسي وتصدي الشباب الفلسطيني لهم، لم يمهلنا لنقف امام هذا الحدث.

حصل الانتخاب بعد ان عاشت هذه المدينة ، وهي اهم معقل ديني لليهود في اسرائيل وفي العالم، مدة 11 سنة دون وجود راف راشي يقود الحياة الدينية فيها ويوجهها، مع الأخذ بعين الاعتبار ان مسؤولية هذا الراف تتعدى حدود القدس الغربية الى حدود المستوطنات اليهودية في كل المناطق التي احتلت في حزيران عام 67 وتنعكس على الحياة اليهودية، الدينية والسياسية، في اسرائيل عامة. هذا لا يعني ان كبير الكهنة (راف راشي)  لمدينة القدس أهم من الراف راشي لإسرائيل عامة، ولكنه يعكس، بلا شك، موازين القوى بين التيارات الدينية، كما يعكس الحالة السياسية عامة ويؤثر فيها بالتبادل، وهذه هي احدى الميزات التي تفرض علينا الوقوف عند هذا الحدث الهام.

للتأكيد على اهمية الحدث نذكر ايضا، ان مجلس الكهنة الكبار (الربانيم)، والمكون من 48 شخصا ، لم ينتخب راف راشي واحد للمدينة، بل انتخب اثنين، واحد لليهود السفراديم ( الشرقيين) وآخر للاشكنازيم ( الغربيين) او ما يعرف بالعربية بيهود الخزر، إذ لم تنجح كل المساعي، الطويلة والمضنية خلال السنوات الماضية، للتقريب بين الطرفين الدينيين. مما يشير الى استمرار عمق الخلافات بين المذهبين اليهوديين، ولا يقل عن الخلاف بين السنة والشيعة في الاسلام، عالَمان مختلفان ولا يلتقيان.

لقد تقدم لوظيفة كبير الكهنة الاشكنازي للمدينة ثمانية كهنة أهمهم موشيه حاييم لاو،  والكاهن ارييه شطيرن، وكلاهما من التيار الديني الصهيوني، ففاز شطيرن الذي اقترب من سن السبعين، الامر الذي يتطلب تصريحا خاصا من مجلس الكهنة، في المستقبل، للاستمرار في ممارسة عمله لخمس سنوات اضافية فقط.

 تقدم لمنصب الراف راشي الشرقي 11 كاهنا وكان ابرزهم شموئيل الياهو،  راف مدينة صفد، المعروف بعُنصريّته المفرِطة، وهو صاحب عدة فتاوى دينية عنصرية وأهمها عدم جواز سكن العرب بالقرب من اليهود، اما الثاني فهو موشيه عمار، الذي شغل،  سابقا، منصب راف راشي لليهود الشرقيين في اسرائيل عامة، وهو لا ينتمي للتيار المتزمت (الحردي)، بل للتيار الديني الصهيوني الذي يقوده الوزير نفتالي بينيت، وهو تيار يقدس الاستيطان اليهودي في كل مكان من فلسطين التاريخية، وحتى خارجها حيث تطأ اقدام الجنود الصهاينة.  بالرغم من تدخل المستشار القضائي للحكومة علنا، حتى الليلة الاخيرة، لمنع انتخاب الراف شموئيل الياهو، وبطبيعة الامر لا يمكن ان يتدخل بدون أمر رئيس الحكومة، وتهديده باللجوء الى المحكمة العليا لمنعه من ممارسة مهامه ، في حال انتخاب الياهو،  الا ان الراف الياهو حصل على 18 صوتا من أصل 48، بينما حصل منافسه على 28 صوتا، بما في ذلك اصوات الربانيم الحرديم بتوجيه مباشر من ارييه درعي، وهذا يعني انه لولا التدخل الحكومي والراف درعي بالذات، وقد يكون في ذلك صفقة سياسية لاحقة ايضا، لكانت النتيجة  لصالح الياهو.  الملفت للانتباه ان التصويت في نهاية الامر انحصر بين كاهنين شرقيين متطرفين، وكاهنين غربيين متطرفين ايضا، ومن اكثر التيارات المتطرفة سياسيا في اسرائيل، إذ كان لا بد من الاختيار بين المتطرف الاستيطاني أو الاكثر تطرفا والعنصري جدا، وهل من فرق بينهما؟  نعم، لقد وصل الامر في اسرائيل الى هذا الحد، وقد اشارت وسائل الاعلام العبرية الى مدى تدخل الوزير نفتالي بينت في هذه الانتخابات حتى وصف بعض المعلقين ان النتيجة هي انتصار مستقبلي للوزير بينيت وتياره السياسي- الديني، اي الديني-الصهيوني، وبالتالي انتصار للمستوطنين ايضا.. اليس هذا انعكاسا للحالة السياسية العامة في اسرائيل او تأثرا بها بعد العدوان الاخير على غزة؟

قد يهرب البعض من الاستنتاج المذكور لحصر الخيارات في الحياة الدينية فقط، ولكن المتابع للحياة السياسية واستطلاعات الراي العام المتعددة، التي أجريت بعد العدوان الاخير على غزة ، او ما يسمى بعملية "الجرف الصامد"،  يجد ان المجتمع الاسرائيلي يزداد تطرفا الى اليمين. فالخيارات السياسية للرأي العام في اسرائيل لا تختلف عما هو عليه في المؤسسات الدينية اليهودية، ان غالبية المواطنين في اسرائيل، اي اكثر من 75%، لا يريدون حلا سياسيا ينتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة حتى لو كانت على مساحة لا تتعدى 22% من مساحة فلسطين، ورئيس الحكومة بيبي نتانياهو لا ينافسه، او يهدد موقعه، أحد على رئاسة الحكومة، الا من المعسكر اليميني الاكثر تطرفا منه، ولذك نراه يتبنى مواقف نفتالي ينيت في خطاباته فيكشف عن مواقفه الحقيقة من موضوعة  الانسحاب من الضفة الغربية، ويفضحه وزيره موشيه يعالون بقوله ان استراتيجية اسرائيل "لن تنتهي بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وانما بحكم ذاتي للسكان دون سيادة على الارض" او الجو، وهذه الاستراتيجية هي بالضبط ما يحاول تنفيذها بيبي نتانياهو دون التصريح عنها، بل يراوغ بفضل قدراته على التضليل وفن ادارة الصراع،  يساعده في ذلك ضعف القيادة الفلسطينية وتردي أدائها، وخيانة الانظمة العربية على حد سواء. من هنا نجد ان الخيارات السياسية في اسرائيل لا تختلف عن الخيارات التي وقفت امام المؤسسات الدينية، فإما انتخاب اليمين المتطرف وإما اليمين الاكثر تطرفا. نعم لقد وصلت الحال  الى هذا الحد في الحياة السياسية ايضا، وعليه ، لن يكون سلام، او لن تقوم الدولة الفلسطينية نتيجة لعملية تفاوض عبثية مستمرة منذ اكثر من عشرين عاما دون أفق، وانما بإجراءات احادية الجانب، مدعومة من مجلس الأمن، وبغير ذلك فلا مكان للحلول السلمية.


اليف صباغ- البقيعة

كاتب ومحلل سياسي ، مختص بالشؤون الاسرائيلية

24.10.14




حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

في التعليق على الانتخابات السكوتلاندية للاستقلال وعلاقة اسرائيل بها...


 في التعليق على الانتخابات السكوتلاندية للاستقلال وعلاقة اسرائيل بها... 

 

       إسرائيل وأسرار الاتحاد البريطاني الطوعي

                                                                                       اليف صباغ- البقيعة

طالما سُئلتُ، لماذا نقول بريطانيا وأحيانا انجلترا؟ فهل من فرق بينهما؟  الجواب بسيط، نعم. بريطانيا او المملكة المتحدة، هي إتحاد "طوعي"، بين انجلترا وايرلندا الشمالية وسكوتلاند بالاضافة الى ويلز. ومَن منا لا يعرف نضال شعب إيرلاندا الشمالية للاستقلال عن المملكة المتحدة؟ حصل هذا الاتحاد/ الزواج عندما كانت الامبراطورية البريطانية أعظم دولة في العالم، فكيف للشعوب ان لا تقبل "طوعا" بالاتحاد مع انجلترا؟ وهل كان باستطاعة اي من هده الشعوب او ترفض الاتحاد "الطوعي" أي الاحتلال الانجليزي؟ ولكن عندما غابت الشمس عن أملاك الامبراطورية بدأ الثلج يذوب وتتكشف الارض على حقيقتها. هذه هي حقيقة الاتحاد الطوعي بين انجلترا وجاراتها، وقد تمكنت انجلترا خلال الفترة الطويلة هذه من تقييد اعضاء الاتحاد البريطاني بقوانين وانظمة اقتصادية وعسكرية وغيرها بحيث اصبحت المطالبة بالاستقلال مغامرة صعبة او تحد للذات لدى كل من شعوب الاتحاد البريطاني قبل ان يكون تحد لانجلترا او للعرش الملكي.

من هنا ارتعدت فرائص انجلترا وحكومة المملكة المتحدة، وحتى العائلة المالكة، رغم رمزية صلاحياتها، عندما اتضح لهم من خلال استطلاعات الراي العام ان الانتخابات السكوتلاندية الخاصة باستمرار علاقة السكويين مع الاتحاد البريطاني او الانفصال عنه ستسفر عن رغبة ساحقة بالاستقلال، فقامت الحكومة البريطانية ممثلة برئيس وزرائها كاميرون وكل القوى الاقتصادية الفاعلة محليا واوروبيا ودوليا بتهديد الشعب السكوتي، باشكال ومجالات مختلفة، بالويلات ما اذا قرروا الاستقلال واقامة دولتهم المستقلة، ومن هذه التهديدات انهيارات في البورصة لبنوك لها فروع كبيرة في اسكوتلاند عشية الانتخابات وترويج الاخبار الاقتصادية ، عبر صحيفة الايكونوميست ، من ان سكوتلاند ستبقى مع 100 مليارد جنية استرليني من الدين العام، او تهديد الاتحاد الاروبي بعدم الاعتراف بالعملة السكوتلاندية الجديدة، او باخراج سكوتلاند المستقلة من مؤسسات الاتحاد الاوروبي الاقتصادية والعلمية الخ. بالمقابل، وبدون ادنى صلاحية دستورية، قام رئيس الوزراء البريطاني كاميرون باغداق الوعود السخية  ومفادها ان حكومة الاتحاد ستقر قوانين جديدة تعطي بموجبها للسكوتيين وحكومتهم المحلية مزيدا من الصلاحيات وعائدات الضرائب وما الى ذلك شرط ان يبقوا داخل الاتحاد البريطاني، اي مقابل التصويت ب "لا" للانفصال والاستقلال. فهل يمكن تفسير الانقلاب في الرأي العام يوم الانتخابات لغير صالح الاستقلاليين، بعيدا عن هذه الوعود والتهديدات على حد سواء؟ وهل تتحقق هذه الوعود الانتخابية فعلا؟ ام أنها رشوة انتخابية تتعارض مع أسس الانتخابات الديموقراطية؟ هذا ما ستثبته الايام والاسابيع القادمة. لقد حذر زعيم الاستقلاليين السكوت من تبعات الخديعة البريطانية، وبالمقابل حذر آخرون من تنفيذ هذه الوعود حتى لا يقوم الايرلنديون والويلزيون في اليوم التالي فيطالبوا بما حصل عليه السكوتيون. وفي الحالتين خسرت انجلترا وحكومة الاتحاد البريطاني ووضعت لنفسها شروط انهيارها المستقبلي.  هنا لا بد من الوقف امام الجهود التي يبذلها الغرب عامة، بقيادة أمريكا، لتفكيك الدول الأخرى بدءً من الاتحاد السوفييتي سابقا مرورا بالسودان والشرق الأوسط عامة، بذريعة حقوق الشعوب بالاستقلال، في حين انهم يبذلون كل الجهود لمنع تفكك اي دولة غربية،  بل يعملون لتوحيد هذه الدول وتكاملها كما فعلت أوروبا. وإذا كان الغرب "يعمل بلغة المصالح" ويبحث عن مصالحه كما يقول عربان امريكا، أفلا يجوز للعرب، واعني الشعوب وليس الحكام،  أيضا ، ان يبحثوا عن مصالحهم؟ 

يذكر انه يعيش في سكوتلاند اليوم اكثر بقليل من 5 مليون سكوتي، بينما يعيش اكثر من 25 مليون سكوتي في ارجاء العالم، فهل للاتحاد "الطوعي" هذا، وغياب سيادة السكوتيين على خيرات بلادهم  ومقدراتها وحاضرهم ومستقبلهم علاقة بهذه الهجرة؟  يذكر ايضا، ان سكوتلاند كانت أكثر مناطق الاتحاد البريطاني غنى بالصناعات التقليدية فتحولت في العقود الأخيرة الى أكثر المناطق غنى بالصناعات التكنولوجية المتطورة، إضافة الى أن غالبية النفط والغاز المنتج في بريطانيا يأتي من مناطق بحر الشمال التابع الى سكوتلند. وتشكل سكوتلاند ثلث مساحة بريطانيا.

ألحَّ علي صديق يتابع ما أكتب، للإجابة على سؤال آخر، ما علاقة اسرائيل بالانتخابات السكوتية؟ ولماذا كل هذا الاهتمام الإعلامي؟  فيبدو من نتائج الانتخابات، وكأنهم تنفسوا الصعداء عندما فشلت محاولة الاستقلال عبر صناديق الاقتراع؟

 لا شك ان الاعلام الاسرائيلي ، بطبيعته الصهيونية العالمية، لا يترك بقعة في العالم دون استقراء اخبارها وخاصة ان كان هناك يهود اثرياء يعيشون فيها، وبريطانيا، وان كان عدد اليهود فيها قليل، الا انها دولة هامة بالنسبة لاسرائيل، كما كانت في الماضي ، وستبقى أيضا في المستقبل المنظور، وأي تغير سياسي فيها لا بد ان يدخل ضمن السؤال الأبدي، ما هي مصلحة اسرائيل او مصلحة اليهود في ذلك؟ وقد عبر عدد من الكتاب قيل الانتخابات من ان قيام دولة جديدة في اوروبا مثل سكوتلاند سيعني انها  قوة جديدة داعمة للفلسطينيين، اضافة الى انها ستفتح الطريق نحو انهيار المملكة المتحدة وهي الداعم التاريخي لإسرائيل والمؤسس لوجودها.

ليس هذا فقط، فطالما رأت اسرائيل بالسياسة البريطانية نموذجا لها مقابل العالم العربي، بمنهجية "فرق تسد"،  والمخادعة والتضليل والمكر والنفوذ المخابراتي واشكاله، مع القسوة والإجرام بحق الشعوب المستضعفة في آن معا.  ولطالما رأت بالنموذج السكوتي وعلاقة التبعية الاقتصادية للشعب السكوتي بالاتحاد البريطاني مثالا يمكن تطبيقه مع الفلسطينيين في الحل النهائي. من هنا كانت الخطوة الاولى التي قامت بها اسرائيل لربط الاقتصاد الفلسطيني بالاسرائيلي ليكون خاما وتابعا له، وذلك من خلال جر الفلسطينيين للتوقيع على بروتوكول باريس الاقتصادي، ملحقا لاتفاق اوسلو ، ليتحول لاحقا الى اتفاق باريس الاقتصادي. هذا الاتفاق الذي يقرر بوجود وحدة اقتصادية بين اسرائيل والدولة الفلسطينية القادمة، وقد قال عنه ابراهام (بايغة) شوحط، وزير المالية الاسرائيلي آنذاك وهو الذي وقع على الاتفاق من الطرف الاسرائيلي: " لقد تمت صياغة البروتوكول والاتفاق وفق المصالح الاسرائيلية، وبهدف منع تكون اقتصاد فلسطيني مستقل، وقبِل به الفلسطينيون لأنهم رأوا به مصالحهم في تلك الظروف". وهو اتفاق ما يزال ساري المفعول ويعاني بموجبه الفلسطينيون اشد المعاناة ولا يختلف اثنان فلسطيني واسرائيلي من انه يعرقل ، بل يمنع،  تطور الاقتصاد الفلسطيني ويصبح الاستقلا حلما منسيا،  وتمنع مجمل الاتفاقيات التفصيلية، التي لحقت به، من امكانية تشكُّل اقتصاد فلسطيني غير تابع لاقتصاد دولة الاحتلال وخادما لها. ليس هذا وحسب، بل تشكل هذه التبعية عاملا اساسيا لهجرة المبادرات الاقتصادية الوطنية ولهجرة العقول العلمية الوطنية كما حدث مع ابناء الشعب السكوتي على مدى العقود والقرون الثلاثة الماضية، او انهم يضطرون الى خدمة المحتل. وهذا ضمان اضافي، من وجه النظر الاسرائيلية، لعدم تغيير الميزان الديموغرافي لصالح الفلسطينيين بين النهر والبحر في اي ظروف مستقبلية.

لقد كانت الانتخابات السكوتية من اجل الاستقلال او البقاء تحت الاحتلال البريطاني طوعا، بمثابة اختبار حقيقي لقوة التبعية الاقتصادية في رسم المستقبل السياسي. فهل تفضل الشعوب استقلالها وسيادتها على مصالحها الاقتصادية ام العكس؟ لقد ثبت للاسرائيليين، وفق نتائج الانتخابات السكوتية، ما كانوا يريدونه وما يطمحون اليه، من ان السلام الاقتصادي الذي نظَّر له بيبي نتانياهو عام 2008 وتبناه طوني بلير ، رئيس وزراء بريطانيا بين 1996-2007 وهو الذي يرعى عملية السلام الاقتصادي، بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية، هو الطريق والمنهج الذي سيوصل الطرفين طوعا الى اتفاقية سلام تضمن التفوق الاسرائيلي الدائم في كل المجالات والخضوع الفلسطيني الطوعي لذلك، هذا الحل، كما يراه الاسرائيليون لن يوصل الفلسطينيين الى دولة مستقلة وذات سيادة،  وفي الوقت ذاته لن يكونوا جزءا مركبا من الدولة "اليهودية" التي يحلم بها نتانياهو. سيكون للفلسطينيين دولة محدودة السيادة على مواطنيها ومنزوعة السيادة على أراضيها، انه الحلم الاسرائيلي. 

مثل هذا التصور يراه الاسرائيليون من بدايتين مختلفتين، بعضهم يقول ان السلام الاقتصادي مع الفلسطينيين سيجلب تطبيعا مع العرب عامة والبعض الاخر يعتقد ان "الحل الاقليمي" الذي يبدأ بالسلام الاقتصادي مع العرب هو الذي سيأتي بالسلام مع الفلسطينيين. مثل هذا التصور، الثاني، يزداد قبولا في الدوائر السياسية في اسرائيل وهو ما يُروّج له اصدقاء اسرائيل الجدد في العالم العربي. فهل تشهد القاهرة في الأيام القادمة محادثات اقليمية ام انها ستشهد صراعا فلسطينيا داخليا وفق الايقاع الذي حددته اسرائيل؟
                       ____________________________   

حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ماذا بعد خطاب البيبي نتانياهو؟


                                ماذا بعد خطاب البيبي نتانياهو؟


 
انتظرنا خطاب بيبي نتانياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلية، في الاجتماع السنوي للجمعية العامة للامم المتحدة، ومن مِنّا لم يتوقع ان يكون خطابه ديماغوغيا وهجوميا؟ ديماغوغيا لأن هذا هو نهج نتانياهو تجاه كل قضية محلية او اقليمية او دولية. سياسية كانت او اقتصادية او حتى حزبية. الديماغوغية هي نهج حياته ولا يمكن ان يتوقع منه أحد، حتى من اقرب الناس اليه، غير ذلك، واكبر إثبات هي استقالات قيادات ليكودية ذات انجازات كبرى، وكان آخرهم وزير الداخلية جدعون ساعر

. وهجوميا، لأن الاسرائيليين عامة ولا استثني أحدا يخشون بل يرتعبون من موقع المتَّهَم ( بفتح الهاء) فيتحولون في كل مناسبة الى موقع المهاجِم او المتَّهِم (بكسر الهاء) والضحية في آن معا، وذلك للهروب من مناقشة مصداقية "حقهم" السياسي او التاريخي في فلسطين، او لمنع نقاشاتهم الداخلية التي قد تفجر تناقضاتهم.

في الحقيقة يحتاج خطاب بيبي نتانياهو الى دراسة موسعة ومفصلة، وكل خطاباته تحتاج الى ذلك، لما تتضمنه من مواقف مبدئية حقيقية مغلفة بأكاذيب وديماغوغيه منقطعة النظير،

يمارسها في حياته السياسية اليومية. وبما اننا لسنا بصدد الدراسة المطلوبة نكتفي ببعض الملاحظات لضرورة الانتباه اليها.

اولا: كان الجزء الأول من خطابه محاولة لتلخيص النقاش الدائر منذ سنوات مع الادارة الامريكية عن امكانية التعاون مع بعض الحركات الإسلامية في الشرق الاوسط لفرض نظام شرق اوسطي جديد، بحيث يقوم هذا النظام، من وجهة النظر الامريكية، على استلام او مشاركة الاسلام السياسي في الحكم في بعض البلدان العربية او غالبتها، وتكون الانظمة الاسلامية الجديدة موالية لامريكا كما كانت الانظمة السابقة، ومتصالحة مع اسرائيل التي تقيم سلاما مع الفلسطينيين، وبالمقابل ترى اسرائيل ان مثل هذه الاستراتيجية غير قابلة للتحقيق وهي تشكل خطرا استراتيجيا على اسرائيل، وفي هذا الخطاب بالذات اصر بيبي نتانياهو ان يذكر الادارة الامريكية بالمواقف الاسرائيلية، مؤكدا او الموقف الاسرائيلي اثبت صحته مشددا على ان

"داعش" هي "حماس" و"حماس" هي "داعش"، ولا تبتعد الاولى والثانية عن ايران وحزب الله ايضا، وكلهم وفق تعبيرنتانياهو "فروع للشجرة نفسها"، شجرة الاسلام السياسي المتطرف. هذا التلخيص جعل بالادارة الامريكية ترد عليه بالقول: "ان حماس ليست داعش". هذا الخلط المقصود بين تجليات الاسلام السياسي والقفز على الفروق والتناقضات فيما بينهم، والذي اصر عليه نتانياهو يجعل امكانية التفاوض مع "حماس"، مهما قدمت من تنازلات، وقد قدمت الكثير في الاونة الاخيرة، امرا مستحليلا.

ثانيا: اصر بيبي نتانياهو في خطابه او يتهم حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية بارتكاب جرائم حرب واشار اليها على انها حكومة ابومازن، وبذلك اتهم ابومازن نفسه بالمسؤولية عن تلك "الجرائم"، وفي ذلك قطع الطريق على اي امكانية للعودة الى المفاوضات بين حكومة اسرائيل والسلطة الفلسطينية طالما او حكومة الوفاق الوطني، بمشاركة حماس، قائمة.

ثالثا: الانكى من هذا وذاك، فقد كشف نتانياهو عن السبب الحقيقي الذي منعه من التحدث عن حدود ما بين دولة فلسطين ودولة اسرائيل في ظل اتفاقية سلام دائم، بقوله: "لنحن لسنا محتلين، فهل نحتل ارضنا؟" بهذه الجملة القصير عبر بيبي نتانياهو عن موقفه المبدئي من المطلب الدولي لتقسيم ارض فلسطين بين دولتين. بيبي لا يريد تقسيك الارض، بل يريد سيادة يهودية على كل فلسطين، وهو يفاوض على تقاسم الحكم والصلاحيات بحيث لا يكون للفلسطينيين اي سيادة على الارض. هكذا يرى نتانياهو شكل ومضمون الدولة الفلسطينية.


رابعا: فوق هذا وذاك طرح نتانياهو مسارا جديدا لاحلال السلام في الشرق بحيث لا يبدا بالسلام مع الفلسطينيين واقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة ، كمقدمة لتطبيع العلاقات مع العالم العربي والاسلامي، بل تحدث عن تفاوض اقليمي اولا بحيث يبدا بتطبيع العلاقات مع دول المحور الجديد وينتهي بالتسوية مع الفلسطينيين، وفق تصوره المذكور سابقا.

بهذه النقاط الاربع ينسف بيبي نتانياهو أسس التفاوض وعملية التسوية الجارية منذ اكثر من عشرين سنة. ويقطع رأس عملية التسوية، بالضبط كما تفعل الدواعش بالابرياء، وباسم الله يقطعون الرؤوس وباسم السلام ينحر بيبي نتانياهو عملية السلام ويدفنها. هكذا يؤكد بيبي لمن لم يتاكد بعد عبثية التفاوض وفق المنهجية القائمة منذ ما قبل اوسلو وحتى اليوم، ويؤكد انه ما يزال على نهج اسحاق شامير الذي قال انه "لو بقي في الحكم سيبقى يفاوض الفلسطينيين الى ابد الابدين"

.

من هنا، على القيادة الفلسطينية ان تستخدم خطاب نتانياهو ذاته، لكي تدينه في المحافل الدولية، وتستخدمه بكل تفاصيله لفضح المواقف السياسية الاسرائيلية على حقيقتها، وفضح نهج التفاوض والنوايا الحقيقية لاسرائيل، والتأكيد على عبثية المفاوضات، والحاجة الملحة للعودة الى مجلس الامن وكل المؤسسات الدولية لاستصدار قرارات ملزمة ضد اسرائيل او تحقيق انجازات احادية الجانب على الارض في ظل صراع دموي متوقع مقابل اسرائيل.





اليف صباغ

كاتب ومحلل سياسي

محتص بالشؤون الاسرائيلية.


30.9.14

حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

السبت، 11 أكتوبر 2014

زمن التحديات الكبرى ! اليف صباغ



                    زمن التحديات الكبرى !                                                                   

قال لي أحد الارثوذكسيين العرب: والله مش عارفين من وين نلاقيها؟ من إسرائيل أو من الاردن او السلطة الفلسطينية او من داعش؟ فظُلم مَن أقل وطأة؟ لأننا بتنا لا نبحث عن عدل وإنصاف بل عن ظلم يمكّننا من البقاء على هذه الارض. ألا يكفينا ما لاقاه اجدادنا من استبداد اليونان على طول الحكم العثماني والبريطاني؟ ألم يحن الوقت لتكون لنا سلطة وطنية على مقدساتنا وأوقافنا بعيدا عن أي استعمار او استِحمار؟

لا يخفى على متابع، او مجرد مهتمّ بما يحدث في هذا الشرق، حجم التحديات التي يواجهها كل عربي شريف في مكافحة الظلم والفساد والارهاب، ومَن مِنّا لم يسمع ولم يرَ هذه الفظائع بحق الأبرياء، وبحق المسيحيين العرب بالذات؟ وعليه، فالتحديات التي تقف أمام الجميع أكبر من أي فرد او جماعة صغيرة كانت او كبيرة، وإن لم نفهم جميعا ضرورة التعاضد الفعلي، وليس مجرد الكلامي، فلن يكون لأي شريف في هذا الشرق مكان او زاوية تحميه.
في هذه الظروف التي لا تخفى على أحد في الدنيا، يقف المسيحيون العرب عامة، والأرثوذكس التابعين للبطريركية اليونانية في القدس منهم بالذات، أمام تحديات تواجههم من كل الاتجاهات وبكل المستويات. تاريخيا، واجه الارثوذكس العرب استبداد البطريركية اليونانية المسيطرة على أملاك الكنيسة المقدسية، أُم الكنائس، ومقدراتها منذ 500 سنة بمساعدة الحكم العثماني ومن ثم الانتداب البريطاني، وتبعهم الاحتلال الاسرائيلي الذي لم يترك فرصة لاقتناص حقوق العرب الارثوذكس بالتعاون مع البطريركية اليونانية إلا واستغلها. وقد اثيتنا في دراسة طويلة وموثقة ان هذا التعاون لم يكن بعيدا عن رعاية الاجهزة المخابراتية الدولية أبدا، وقد عملنا على خطى اجدادنا، على مدار العقود الماضية، لفضح هذا التعاون ومضمونه وأهدافه، مستعينين بالوثائق الأصلية قبل المقالات والتقارير الصحفية، ومع ذلك لم ننجح في إيقاف هذا التفريط الذي أصبحت نتائجُه واضحة في تغريب أبناء الطائفة العرب وابتعادهم عن كنيستهم، بانتقالهم الى كنائس أخرى او بالهجرة من الوطن كليا، وتثبت الاحصائيات الرسمية أن ما بقي من المسيحيين الارثوذكس في فلسطين، غربا وشرقا، لا يتعدى 80 ألفا، في حين أن عددهم في بلاد الاغتراب تعدى المليونين باقل تقدير.
بناء على ما تقدم، وفي الظروف الاستثنائية التي نعيشها في السنوات الأخيرة، باتت المهمة الكبرى، والتحدي الأكبر، أمام كل شريف في هذا الشرق، هو كيف نحافظ على ما تبقى من مسيحي الشرق العرب في أوطانهم؟ وهنا لا بد أن يُسألَ كل رجل دين، بغض النظر عن دينه أو مذهبه، وكل شخصية سياسية يدعي العروبية والوطنية والتعايش بين الأديان في الوطن المشترك، ماذا فعلتَ؟ ماذا قدمتَ لكي تحقق هذه المهمة الشريفة؟
 قد يكون هذا السؤال عاما وصحيحا ولكنه ليس السؤال الأصعب. فالسؤال الأكبر والأصعب الذي يكرره كل ارثوذكسي عربي في فلسطين والأردن هو، من اين نلقاها؟ من أي اتجاه نواجه التحديات؟ ناضل أجدادنا ضد الحكم العثماني الذي ناصر الاستعمار اليوناني ضدنا، وناضلوا ضد الانتداب البرطاني الذي دعم مندوبُه السامي سيطرة اليهود الصهاينة على مقدساتنا وأوقافنا، وما نزال نناضل ضد تسريب الأوقاف الارثوذكسية للحركة الصهيونية.  وكنا على أمل دائم ان تكون الأردن، الدولة التي يفترض ان تكون البطريركية اليونانية تحت عباءتها بموجب القانون، حامية لحقوقنا، ولكن هيهات!! وفي لحظة ما طاب لنا ان نحلم بقيام دولة فلسطينية، او حتى سلطة فلسطينية، تكون عونا لنا وضامنا لحقوقنا المسلوبة من قبل المستعمر اليوناني، ولكن للأسف، سرعان ما خاب ظننا، وشهدنا بأم العين تسريبا للأوقاف الى الحركة الصهيونية دون ان تحرك السلطة او الحكومة الأردنية ساكنا، لا بل شهدنا تعاونا إسرائيليا أردنيا فلسطينيا بأوامر المخابرات الامريكية لرعاية بطريرك من صناعة هذه المخابرات، لخدمة المحتل الاسرائيلي. وعندما تقدمنا بالشكوى للسلطات الاردنية والفلسطينية ضد البطريرك الذي خان كل تعهداته المكتوبة لهذه السلطات وخالف القانون الأردني، الذي يُفترض انه ملزم بتنفيذه، سمعنا جوابا يقول: لا نتدخل في "أمور الكنيسة الداخلية" ، عجبا!! مع ان كل ذي عقل يعلم أن هذه المخالفات ليست أمورا "كنسية داخلية"، ولكن حين يأخذ البطريرك قرارا كنسيا داخليا ضد احد الرهبان العرب، بنقله او اخراجه من ديره او حرمانه من القيام بواجباته تجاه رعيته العربية، "تتطوع" أجهزة الأمن الفلسطينية او الاردنية لتنفيذ القرار، ولو بالقوة، دون اي اعتبار لحقيقة كون هذه القرارات هي شأن كنسي داخلي فعلا ، وفق كل المعايير القانونية. ففي رامالله تدخلت قوى الأمن الفلسطينية لطرد الارشمنديت ملاتيوس بصل من الدير تنفيذا لقرارات البطريرك وزبانيته، وفي الاردن "يتطوع" اليوم رئيس الوزراء ووزير داخليته لتنفيذ قرار البطريرك اليوناني بنقل الأب خريستوفورس من دير دبين ومن بين ابناء رعيته، الى دير البطريركية ليكون حبيس الاجراءات القمعية اليونانية والرقابة المخابراتية الاسرائيلية. وليفسر لي رئيس الوزراء او وزير داخليته بأي عمل وطني او عروبي يقومون؟ وليفسر لي اولأبناء الأردن العرب الارثوذكس، ما هي مرجعيته القانونية التي يعمل بموجبها؟ وليُفسّر لأبناء الأردن الشرفاء كيف ينسجم هذا العمل مع تصريحات جلالة الملك بان الأردن كان وسيبقى حام للمسيحيين العرب ويسهر للحفاظ عليهم في وطنهم الأم؟  
هل نعتب على "داعش" ام على اشباههم من المنافقين؟ لا عتب.... لا عتب على احد حين تكون السلطات الحكومية، التي تتغنى "بالعيش المشترك" و"الوطنية" و"العروبية"، لا تتأخر في تنفيذ قرارات المستعمر اليوناني ضد ابناء الوطن المشترك، وتتردد او حتى تتمنّع عن تنفيذ قوانين سنتها الهيئات التشريعية المنتخبة.
نعي جيدا ثقل المسؤولية وحجم التحدي الذي يواجهنا، ونعي جيدا ان اعتمادنا الأساس على إيماننا بصدق قضيتنا وبطريقنا القويم ، اعتمادنا على أنفسنا وعلى كل الشرفاء في هذا الوطن العربي الكبير،ناضل اجدادنا فبقينا في وطننا ونناضل ليبقى اطفالنا في وطنهم، في ظروف مشابهة تحرر اخوتنا في بطريكية انظاكيا عام 1899 من الاستعمار اليوناني ولن يطول الزمان حتى نتحرر نحن ايضا، شاء من شاء وأبى من أبى، أنها حتمية النضال المستديم، فمن اختار ان يكون معنا فأهلا وسهلا به، ومن اختار ان يكون مع المستعمر اليوناني فبِئسَ المصير!


اليف صباغ 
البقيعة 11.10.14
                                   ______________________________ 


حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

الجمعة، 10 أكتوبر 2014

لا بدّ من كشف المستور !


                            لا بدّ من كشف المستور !
                                                                                        اليف صباغ 10.10.14

بالأمس إلتهمت، على وجبة واحدة تقريبا، كتابا هاما وصلني مساء أمس الأول من امريكا وعنوانه: "لمحة تاريخية في اخوية القبر المقدس اليونانية".  يتكون الكتاب من 161 صفحة، ألفه الاسقف العربي السوري، الراهب الثائر رفائيل هواويني (1860-1915)، ولكنه طُبِع ونُشر في بيروت عام 1893 باسم مستعار وهو عبد الأحد الشافي، أي قبل ست سنوات فقط من استقلال البطريركية الانطاكية العربية عن بطريركية اورشليم اليونانية.
استعرض الكاتب في مؤلفه حقبة تاريخية هامة في حياة الكنيسة الارثوذكسية الاورشليمية وانتقالها عام 1534 الى السيطرة اليونانية الكاملة برئاسة البطريرك جرمانوس، من خلال إقامة ما يسمى بأخوية القبر المقدس اليونانية، وهو تنظيم داخلي أعضاؤه من اليونانيين فقط، وابتعدت بذلك الرئاسة اليونانية عن الرعية العربية ومنعت تقدم الرهبان العرب في سلك الكهنوت بل ومنعتهم من الانضمام الى الرهبانية، والملفت للانتباه انها مستمرة بسياستها المعادية للرعية العربية حتى أيامنا هذه. يمكن ان يلاحظ القارئ ايضا، ان الرئاسة اليونانية لم تكن معادية للعرب فقط، بل لكل من هو غير يوناني أيضا، حتى سيطرت بالكامل على مقدرات الكنيسة المادية، وكان هذا هو جُلّ اهتمام اليونان على مدار خمسة قرون وما يزال، ومن ذلك الاهتمام المادي لم يتورع الرهبان اليونان عن بيع "صكوك الغفران"، كما فعلت السلطة الباباوية من قبل، للمؤمنين الذين زاروا الاديرة المقدسة حتى فضحهم بعض الزوار الروس في نهاية القرن التاسع عشر فتراجعوا عن أفعالهم هذه بالعلن واستمروا بممارستها سرًّا .
اعتمد الاسقف رفائيل هواويني، فيما كتب، على ما شاهده بأم عينه وعرفه كشاهد على العصر، كما استعان بمؤلفات عديدة لمؤرخين وباحثين سبقوه، وقد لفت انتباهي ذِكرُه لكتيّب باللغة اليونانية طبع في القسطنطينية عام 1873 وعنوانه "البلاط البطريركي عار اورشاليم"، لمؤلفه اليوناني ن.ي.ث. يتحدث فيه عن السلوكيات الاخلاقية للرهبان والراهبات اليونانيين وهي لا تختلف كثيرا عما نعرفه في أيامنا، ورسائل نُشرت باللغة الروسية ومدونات لشخصيات دينية يونانية وروسية وغيرهم عاشوا في تلك الفترة ودونوا أحداثا شاركوا بها، وأهمها، في نظري، حديث الارشمندريت الروسي بورفيريوس مع الوكيل البطريركي المطران ملاتيوس عام 1844 ، هذه المحادثة، وأسباب حصولها المثير والمعيب للرهبنة اليونانية، ومضمونها، تؤكد ان الرئاسة اليونانية لم تكن يوما دينية او روحانية، بل سيطرة مادية وعنصرية على مقدرات الكنيسة الاورشليمية ومدخولاتها مع استمرار إهمال وإذلال الرعية العربية الى أقصى الحدود.
الانكى من كل ذلك، يشير الاسقف هواويني، كما اشار من سبقوه، الى منهجية اليونان في تقديم الرشاوى الى الموظفين العثمانيين وغيرهم بهدف تجنيدهم ضد أبناء الكنيسة العرب، واتهام بعض الرهبان المؤمنين بالجنون مثل الارشمندريت خريستوفوروس جبارة ومطران زحلة جراسيموس يارد وآخرون، او الاستعانة برجال العسكرالعثمانيين، مقابل مكافئات مادية، لنقل الرهبان من أماكنهم الى المنفى البعيد حيث لا يستطيعون التواصل مع أي من أبناء رعيتهم، مع الإمعان في إهمال حاجات وحقوق أبناء الكنيسة الوطنيين، الأمر الذي جذبهم للانضمام الى الكنائس الغربية، كما هو الحال في أيامنا.     
تكمن أهمية الكتاب في تصوريه واقعا أشبه بما نحن عليه اليوم في العلاقة بين أبناء الكنيسة الارثوذكسية العرب والرئاسة الروحية اليونانية، وتدخُّل القوى السياسية لصالح الرئاسة الروحية ضد الارثوذكس الوطنيين، إما لمصالح سياسية كبرى او مقابل رشاوى مادية تقدمها لهم البطريركية اليونانية. إضافة الى ذلك، استمالة بعض المنافقين المنتفعين من أبناء الكنيسة العرب بهدف دق الاسافين بينهم ومنع اي نهضة ارثوذكسية عربية تستعيد حق ابناء الكنيسة الوطنيين في اديرتهم وكنائسهم ورعاية حياتهم الروحية والوطنية. ولهذا يختتم الراهب الهواويني كتابه بنداء حار الى ابناء وطنه، يناشدهم فيه ان يتوحدوا لاستعادة حقوقهم وحياتهم الروحية الحقة فيقول: " فكيف والحالة هذه لا ينفطر قلب كل ارثوذكسي وطني حقيقي لدى رؤية شراك الهلاك، التي تنصبها لابناء وطنه وكنيسته، اخوية القبر المقدس اليونانية؟ بل كيف لا تهيج في دواخله عوامل الغيرة الوطنية والحمية الارثوذكسية عند نظره اختطاف كنيسة آبائه وأجداده من قِبل ذئب خاطف خبيث، وهيهات أن يُستأمن الذئب الأخبث؟  هذا بعد أن كانت الكنيسة الانطاكية تفتخر فيما مر من عصور بأحبارها الصالحين ورعاتها الفاضلين واكليروسها المزيّن بالعلوم والمعارف مثل القديس الشهيد اغناطيوس المتوشح بالله وافرايم السرياني ويوحنا ذهبي الفم ويوحنا الدمشقي واندراوس اسقف كريت الدمشقي وصفرونيوس بطريرك اورشليم الدمشقي وغيرهم كثيرون".
الملفت للانتباه ايضا، انه بالرغم من حالة الإحباط التي عاشها الاورثوكس العرب في تلك الفترة الا ان ايمانهم بحقهم وبالطريق القويم قادهم الى الاستقلال عن الرئاسة اليونانية المتغطرسة، رغم انف السلطة العثمانية، عام 1899 ( ست سنوات بعد صدور هذا الكتاب)، باقامة بطريركية انطاكيا وسائر المشرق، بعيدة عن الحكم اليوناني المستبد. وما يسترعي الانتباه ايضا ان منهجية  الاستعانة بالسلطات السياسية مقابل رشاوى مادية ما تزال منهجية قائمة، اما سياسة "فرق تسد" واستمالة بعض المنافقين المنتفعين من ابناء الرعية، فيبدو ان الرهبان اليونان هم أول من انتهجها وليس الانجليز، لأن الاستعمار واحد مهما اختلفت جنسياته.
على اية حال فنحن نعرف المنافقين ونعرف المرتشين عندنا ايضا، كبيرهم قبل صغيرهم، وكما كشفنا صفقات العار التي وقعتها البطريركية اليونانية مع الجمعيات والشركات الصهيونية المختلفة، فلا بد ان نمتلك الجرأة لكشف المستور، وهو معلوم لنا، عن صفقات العار التي عقدها ثيوفيلوس مع جهات عربية ايضا، أعلم المخاطر التي قد يتعرض لها بعضنا، ولكننا نمهل فقط ولا نهمل..
                          --------------------------------------------------- 


حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .