الثلاثاء، 31 مايو 2011

المشهد الأخير

المشهد الأخير

يختلف المراقبون اليوم او يتفقون، فالمشهد الاخير لهذا الصراع المتدحرج وموجات الغضب الهادرة، قادم لا محالة، ويبقى السؤال: كيف سيكون هذا المشهد ومن هم أبطاله الأحياء؟ وما هي الالوان المركبة له وهل يتغلب الاحمر على الاخضر ام بالعكس؟ وهل بالضرورة ان يتغلب؟ وماذا عن الالوان البرتقالية والبنفسجية وما الى ذلك؟ اليس لها مكان ايضا؟
هل هي مؤامرة أمريكية وصهيونية حقا؟ ام انها ثورة شعوب عانت الامرين من انظمة الإستبداد فلم يعد لها ما تخسره الا قيودها وفقرها وفقدان مستقبلها وعجز حكامها، فخرج الشاب والصبية، المثقف والموظف، الفلاح والعامل ليهتفوا معا: كفى! كفى ! لم نعد قادرين على تحمل الاستبداد والفساد وكم الافواه وقمع المحتجين ونهب اموال الشعب ومقدرات الوطن وتعطيش الجياع واهانة المة وضياع المستقبل. لم نعد نفهم ضياع مستقبل اكثر من 100 مليون شاب وشابة عرب بين سن 15-29 وتخلف العرب عن السجال في ميادين العلم والتطور. لم نعد نطيق الذل والعجز والهزيمة والهوان متذرعين بالحكمة والواقعية والوسطية. لم نعد نطيق الحاكم المخصي ولكنه أبدي. لم يعد لدينا ما نخسره. هل هي كذلك حركة الشعوب العربية؟ نظيفة من كل تأثير أجنبي؟ عفوية ومن دون تخطيط مسبق؟ ام ان ما نراه هو مزيج مما ذكر ومركبات أخرى لم تذكر. سنركز في هذا المقال على التجربة التونسية والمصرية وهما في صراع محتدم لبناء نظام جديد.
ليس بالضرورة ان تؤمن بنظرية المؤامرة حين تقول: إن "أمريكا وراء الباب". إن نفي حصول المؤامرات في السياسة منبعه الغباء وهو لا ينفع في السياسة، اما ان نعيد كل شيء إلى "مؤامرة امبريالية" فهذه لغة الببغاء وهي ليست لغة سياسية ايضا.
حين نقدم على اتخاذ موقف من اي حراك شعبي في الوطن العربي الكبير، في تونس ومصر واليمن والبحرين وعمان وليبيا وسوريا، وفي السعودية والإردن والمغرب وان كان ما يزال على نار هادئة نسبيا. حينها لا بد ان نبحث عن صورة افقية واخرى عامودية لنفهم ما اذا كان لهذا الحراك الشعبي ظروفا موضوعية سببت حدوثه، وما اذا كانت هناك قوى سياسية، وهي العامل الذاتي، قادرة ان تحمل هموم هذا الشعب وتقود حركته لتصل به الى بر الامان؟ وهنا لا يفوتني ان انبه انه ليس بالضرورة ان تكون أهداف الحركة الشعبية قد درست مسبقا وتبلورت في برامج وخطط، وهو مفضل، بل يمكن ان يحدث هذا في خضم الأحداث ومع تقدم المسيرة وتطورها على ايقاع الحركة الشعبية نفسها. هنا لا بد ان يأخذ المثقف الثوري دوره التاريخي استنادا الى التجربة والوعي والمعرفة وثقة الشعب في قدراته ومعارفه، ليس في تحفيز الشعب وتحريضه، بل في فهم الإيقاع والحفاظ على استمراريته وتوجيهه وضبطه في آن معا، ليمنع المتسلقين، او القوى المضادة، من تحويل هذا الحراك في اتجاهات معاكسة. لا احد ، ولا حزب، ولا وسيلة إعلام مهما تضخمت ميزانياتها، تستطيع ان تصنع ثورة بالتحريض وبقرار ذاتي، دون ان تتوفر الظروف الموضوعية لذلك. وان حدث تحرك ما بتأثير هذا التحريض او التمويل فهو لأجل قريب وقد يولد ميتا احيانا، وقد تستطيع القنوات الإعلامية وقنوات التمويل المادي ان تقوم بانقلاب وان تزعزع الإستقرار وتخلق فوضى عارمة تسفك فيها دماء الأبرياء وتزهق فيها الأرواح الكثيرة، ولكنها لا تستطيع ذلك دون نضوج عوامل داخلية تساعدها في ذلك، وفي كل الأحوال لا تستطيع ان تصنع ثورة. لا احد، لا دولة عظمى ولا مؤسسات مخابراتية دولية تستطيع ان تحرك ملايين الناس في الشوارع لتضع ارواحها على اكفها، نتيجة بث الإشاعات والتآمر. التآمر والنفوذ الإمبريالي ينموان في ارض الفساد والإستبداد أكثر مما ينموان في ارض الحرية والتقدم الإقتصادي والإجتماعي.
حين تهب الثورات لا يكفي ان نقول: المهم هو اسقاط النظام، الا اذا كان الوقوف عند هذه النقطة له مبررات تكتيكية تهدف الى توحيد القوى المتفقة على العدو المشترك ولكنها غير متفقة على النظام البديل، وهذا يلزم وضع تصورات مختلفة ومتشابهة تجعل استمرار الحركة الشعبية ممكنا وفق قواسم مشتركة حتى الوصول الى النتيجة المرجوة واقامة نظام بديل يلبي طموحات ومصالح الشعب.
ليس بالضرورة ان يكون التدخل الامريكي في مسيرة الحراك الشعبي في عالمنا العربي ناتج عن اهداف وضعتها امريكا مسبقا، وليس بالضرورة ان تكون المخابرات الأمريكية والاوروبية والصهيونية هي التي تقف وراء الحركة الشعبية او قواها المحركة، ولكنها بالتأكيد لا تقف متفرجة، اما الحالة الأكثر خطرا حين تستطيع اجهزة المخابرات هذه ان تتواصل مع حلفائها او مع قيادات الحراك الشعبي بوسائل عدة وهي كثيرة، وقد تتواصل مع الطرفين المتصارعين في آن معا ، فتعمل كل شيء بما في ذلك التضحية ببعض حلفائها التاريخيين، كما فعلت مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي، بهدف الحفاظ على مصالحها الكبرى والإستراتيجية، ويزداد هذا الخطر عشية سقوط الحلفاء، او بعد ذلك بالتعاون مع حلفاء جدد تحاول الاجهزة الغربية اجتذابهم بهدف انقاذ مصالحها التي يهددها الحراك الشعبي. فالأستعمار لا يستطيع التحكم بالحراك الشعبي ونتائجه الا من خلال التحكم بقياداته وهو لا يستثني أي اداة متوفرة للوصول الى اهدافه. فلا الموقف يلزمه ولا المبادئ ولا حتى القوانين الدولية، فهو يخلق المبررات لكل ما يقول او يفعل ولديه من الخبراء والوسائل ما يكفي. ان جوهر التدخل الامريكي في خضم الصراعات الحاصلة في كل بلد وآخر بما في ذلك في ليبيا وسوريا يهدف الى افهام العرب، وخاصة القيادات الجديدة وقيادات الشباب، ان امريكا ما تزال تمسك بحبال السفينة وتؤثر في مسيرتها، محاولة بذلك استقطاب المعارضة العربية من جديد ليستعينوا بها، ولتحرف الصراع وتركزه ضد العدو المحلي دون العدو الخارجي، وكأن امريكا حليفة حركات التغيير لا عدوها. ان ما صرح به اوباما مساء يوم 5 آذار لرؤساء الجالية اليهودية في امريكا ونشر في موقع ynet بقوله: "ان اسرائيل ستربح من التغيرات في المنطقة" وانه "في ظل التحول التاريخي في الدول العربية مطلوب منا ان نعمل. إن لم نخف ونتدخل ونقدم المساعدة، فهذه القوى ستكون بشكل طبيعي في صفنا" يثبت نفسه. بغض النظر عمن كان يقصد اوباما في حديثه هذا، هل يقصد المعارضة الليبية أنذاك او المعارضة السورية التي لم تكن متحركة بعد، ام يقصد ما تبقى له من حلفاء في مصر وتونس او في دول عربية أخرى، فهو يعبر عن منهجية السياسة الامريكية في الظروف الراهنة. لا وقوف المتفرج، بل المتدخل والفاعل في محاولة فعلية لتحويل نتيجة هذا الحراك في صالحه، في حين ان الجامعة العربية ما تزال عاجزة وتابعة كما كانت عليه عشية الغزو الامريكي للعراق.
تبقي المعادلة ناقصة ان لم نفهم ان الحراك الشعبي المتواصل في مصر وتونس على سبيل المثال وكذلك في اليمن والبحرين وعمان يتناقض تماما مع اهداف التدخل الامريكي الذي تحدث عنه اوباما ، وان المشهد الأخير سيعكس نتيجة هذا الصراع بين الحراك الشعبي العربي المستمر بقيادة شعبية عنيدة وواثقة من جهة وبين محاولات التدخل الامريكي الصهيوني والغربي عامة للحفاظ على انظمة الإستبداد مع تبدل المستبدين الذين يحملون معهم بعض الإصلاحات هنا وهناك.
نعم أمريكا، لم تصنع هذه الثورات ولكنها دخلت على الخط بسرعة وجاهزية، في المشهد المصري وكذلك التونسي. وخوفا من فقدان كل شي فعلت كما يفعل اصحاب السفينة التي تتعرض للغرق، قذفت بالحمولة الثقيلة والفاسدة كثيرا الى البحر لتنقذ حمولة أخرى، فدعمت الى رحيل بن علي ومبارك بالتنسيق مع الجيش في مصر ومع وزير الخارجية والجيش في تونس وهذا مثبت، في محاولة للتأثير في هوية الحاكم البديل دون اسقاط للنظام، وإن طالبت ببعض الاصلاحات لتهدئة الشعب، ونجحت بذلك في الأيام الأولى بعد سقوط مبارك وبن علي الى حد كبير، واليوم تحاول التحكم بتوجهات الحراك الشعبي في كل من مصر وتونس بعاملين اضافيين: الاول هو التوسط لتقديم القروض المالية من صندوق النقد الدولي او اتخاذ الدول الصناعية الثمانية (جي 8 )قرارا باقامة صندوق استثماري بقيمة 20 مليارد دولار لدعم الإقتصادين المصري والتونسي، وكل منا يعلم ان صناديق الإستثمار وهذه والقروض كانوا الوسيلة الدولية "القانونية" لإفساد الحكام العرب وغيرهم ومن حولهم، والثاني باقامة علاقات منفردة مع حركة الإخوان المسلمين، بقيادة القرضاوي وقطر، وتقديم الدعم لكل حراك شعبي يتفق مع توجهات ومصالح الإخوان، ان كان في سوريا او ليبيا، ومنعه عن الحراك الشعبي في البحرين واليمن، وتهدئة الحراك في دول الخليج والأردن والمغرب ولو مؤقتا.
لكن العامل الأهم مقابل التدخل الأمريكي في تشكل المشهد الاخير، هو الوعي الثوري واستمرار الحراك الشعبي حيث تضرب المصالح الأمريكية، وهو ما يضعف التأثير الامريكي في تشكل المشهد الاخير في مصر وتونس بشكل خاص، ويؤثر على المشاهد الأخرى ضمن الصراع العام بين الإستعمار المتحالف مع الأنظمة المتعفنة وبين الشعوب الساعية الى الإنعتاق والتحرر، وهذا ما يجب ان يستمر بعناد ثوري حقيقي لتشكيل مشهد اخير يضمن تغيير النظام فعلا وليس مجرد تغيير الحكام. هذه المرحلة اطول واصعب بكثير من مرحلة اسقاط الحاكم والمعركة مع امريكا هادئة في ظاهرها ولكنها معركة كسر عظم في جوهرها.
المشهد الاخير والمرغوب يتطلب دعما من حيث لا يتوقع الحاكم الأمريكي، من حركات الشعوب الأوروبية والأمريكية، فهل يستطيع الحراك العربي ان يستقطب حراكا شعبيا اوروبيا وامريكيا داعما للحرية والتغيير المنشود؟ ان المشهد الاخير هو الاهم، وهو وليد الصراع المحتدم ما بين التدخل الأمريكي الإستعماري الساعي للدفاع عن مصالحة بالتحالف مع انظمة الإستبداد او بدائلهم الشبيهة من جهة وقدرة الحراك الشعبي العربي مدعوما من حركات صديقة على تغيير المعادلة والنظام.

اليف صباغ
حيفا برس 31.5.2011


حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق