السبت، 23 يوليو 2011

حراك شعبي معاكس في الاتجاه ومطابق في الهدف

الحراك المعاكس
اعطونا نعيش...القنبلة النووية هنا...من اجل فصل المال عن السلطة السياسية.
تشهد المدن الإسرائيلية منذ اسابيع موجات من الإحتجاجات الشعبية بدأت بالتظاهر على ارتفاع ىاسعار الوقود ودعى المحتجون الى مقاطعة محطات الوقود، مرورا بالإحتجاج على ارتفاع اسعار لبن "الكوتج" المرغوب شعبيا، ومن ثم اعتصامات الاطباء على اهمال الحكومة لقطاع الصحة والعاملين فيه لدرجة قد تؤدي الى انهيار هذا القطاع الذي طالما تفاخرت به اسرائيل وكان جاذبا اساسيا لموجات المهاجرين اليهود وغير اليهود الى اسرائيل، ورأت به بعض الأوساط السياسية العليا اداة لإختراق الابواب الموصدة وربط خيوط التعاون مع العالم العربي او رافعة لمد جسور التطبيع معه، وكان أخرها قيام حركة شبابية كبيرة بنصب الخيام داخل ثماني مدن كبرى، اهمها في تل ابيب، احتجاجا على ارتفاع اسعار الشقق السكنية وارتفاع بدل ايجارها الشهري، لدرجة لم يعد فيها الشباب او الأزواج الشابة قادرة على شراء شقة او حتى استئجار شقة صغيرة أو أن يكلفة ذلك ما يقارب 50% من معاشه الشهري، اما شراء الشقة سيضطره، بالإضافة الى قرض الإسكان، الى طلب المساعدة من الأهل، وهذا ليس من طبيعة المجتمع الغربي عامة بما فيه الإسرائيلي، والعمل 30 سنة بشكل متواصل حتى يستطيع سداد ثمن شقته. لماذا حصل هذا؟ وما هي اهداف الاحتجاجات الشعبية هذه؟ وهل هي احتجاجات مطلبية ام ان وراءها اهداف سياسية غير معلنة؟ وما هي اوجه المقارنة مع الحراك الشعبي العربي؟
هنا لا بد من التذكير ان ازمة الإسكان الحالية لا تتمثل فقط بغلاء الشقق بل بغلاء مقابل الإيجار، وقد نتج ذلك عن قيام الحكومة منذ عام 2009 والى اليوم بإعطاء التسهيلات للمستثمرين الاجانب وكبار شركات العقارات في اسرائيل بشراء الشقق الموجودة، فادخل ذلك الى خزينة الحكومة مبلغ 1.5 مليارد دولار عام 2009 على شكل ضرائب وما يقارب 2 مليارد دولار عام 2010، هذا عدا العملة الصعبة التي دخلت صندوق بنك اسرائيل وتقدر بعشرات المليارات من الدولارات مما زاد من قوة الشيكل مقابل الدولار وحرك عجلة الإقتصاد، ولكنه في الوقت نفسه زاد من ارباح الأغنياء على حساب المحتاجين، لدرجة ان 130 الف موظف في اسرائيل يتقاضون معاشات بما يزيد عن 132 الف شاقل شهريا في حين ان 1.2 مليون موظف يتقاضون معاشات لا تزين عن 6000 شاقل شهريا، هذا الفارق جعل الطبقة الوسطى، التي تمتعت في الماضي برفاهية ما، ترى نفسها اليوم غير قادرة على سد احتياجاتها الإساسية، بينما هناك من يزداد غناه بشكل فاحش نتيجة ارتباطه بالسلطة السياسية وسياستها الإقتصادية اليمينية.
يقول المحامي الداد ريغف، وهو من المقيمين في مخيم الإحتجاج في تل ابيب ومن مؤسسي حركة اليسار القومي: "انها المرة الاولى التي يخرج فيها الجمهور الإسرائيلي الى الشارع، ليس مع المستوطنات او ضدها، ليس مع العرب او ضدهم، ليس مع السلام او ضده، بل على اساس، أعطونا ان نعيش في هذه البلاد". قد لا يكون هذا الكلام دقيقا لأن فقراء اليهود، والشرقيين بالذات، خرجوا في منتصف السبعينات من القرن الماضي بقيادة تشارلي بيطون، عضو الكنيست لاحقا، فملأوا الساحات وقطعوا الطريق على سيارات الحليب ووزعوه على ابناء احياء الفقر، وفي بداية التسعينيات من القرن الماضي ايضا خرج الفقراء، على انتماءاتهم العرقية، للبحث عن مساكن لهم في حين ملأ المهاجرون الجدد كل الشقق الاحتياطية او المعدة للإستئجار وبقي الفقراء في العراء، آنذاك، كانت الحكومة ما تزال ترى نفسها ملزمة بتلبية حاجات المواطنين الضعفاء، فاقيمت مشاريع البناء في كل مكان، بمبادرة الدولة ، وان كانت الشركات التي بنت هي شركات خاصة، وضمنت للضعفاء حاجاتهم باقامة المساكن الشعبية في كل المدن الكبرى وكذلك في المستوطنات القديمة والجديدة. وبالتالي، فهي المرة الأولى فعلا التي يتحرك فيها ابناء الطبقة الوسطى، الطلاب الجامعيون والمثقفون واصحاب المهن الحرة من فنانين ومحامين واطباء شباب، ليقولوا: ان الازمة وصلت اليهم ايضا، وانهم، في مثل هذه الظروف، هم غير قادرين ان يؤمنوا مستقبلهم. ويقول المخرج المسرحي، ريغف كونتاس، وهو من المبادرين الى اقامة مخيم الإحتجاج: "علمونا ان نفكر ان المهم هم القنبلة النووية الإيرانية وآي فون 4، في الحقيقة لا يهمنا هذا ولا ذاك، هذه، ويقصد الأزمة الإجتماعية، هي القنبلة النووية وهي ال –آي فون 4"، بمعنى آخر ان الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود الدولة هو في انهيار دولة الرفاه، الدولة التي توحد وتوازن بين كل المواطنين.
لا شك ان بعض القوى السياسية المعارضة ترغب في تشجيع كل حركة تناهض او تنتقد السياسة الحكومية، بغض النظر ان كانت هذه المعارضة مسؤولة عن الوضع الحالي يوم كانت في السلطة ام لا. عضو الكنيست ايلان غلؤون لا يشك احد في انتمائه للطبقات الفقيرة والدفاع عنها في ظل أي حكومة كانت، يستند على عكازه كعادته، ويزور مخيم الإحتجاج يوميا، عله يجد فيه روحا "انتظرها وعمل من اجلها 30 عاما" كما يقول، وهي ان يرى الجمهور الإسرائيلي قد خرج الى الميادين للدفاع عن حقوقه امام طغمة راس المال. اما بعض السياسيين، من المعارضة او الحكومة منعوا من زيارة المخيم واتهموا بالنفاق. الواقع ان الروح العامة للمحتجين تقول: لا نريد نفاقا سياسيا، ولا نرغب في تحويل هذا الحراك الى منصة للمناكفة السياسية أي الحزبية، ولذلك نرى اصرار بعضهم على رفع العلم الإسرائيلي او ابراز صهيونيتهم او التأكيد على انهم يقدمون اهم واجباتهم للدولة بالخدمة العسكرية، ومع ذلك يقول احد المقيمين في المخيم: لن أغادر المخيم حتى تحقيق مطلبنا الأساس ويتمثل بفصل سلطة المال عن السلطة السياسية، او أن أهاجر".
يدعي المحلل السياسي المعروف، ران اديلست، ان "اليمين اصبح الوجه الآخر لدولة الرفاه". هل حقا؟ وأي يمين؟ هل هو اليمين الإقتصادي الذي يحول الحكومة الى راعِ لدولة الاغنياء مقابل اهمال دولة الفقراء؟ ام انه يقصد اليمين السياسي الذي يجرف الفقراء اكثر مما يجرف معه الطبقة الوسطى؟ واين يقف الليكود وبيبي نتانياهو خاصة من هذا التقسيم؟
يعلم المراقب ان بيبي نتانياهو بالذات يمثل مصالح القوى التي تربط بين اليمين السياسي واليمين الإقتصادي، تربط بين سلطة المال والسلطة السياسية، وبالتالي لامجال لتعليق الأمال عليه بحل ازمة السكن والأزمات الأجتماعية الأخرى وفق رغبة المحتجين، وما موقفه ضد اقامة لجنة برلمانية لفحص مصادر تمويل منظمات المجتمع المدني، والتي سميت بالمنظمات اليسارية، الا رغبة منه ان يظهر بموقف وسطي بعد ان قاد الحملة لسن قانون المقاطعة، وقوانين يمينية وعنصرية أخرى تقيد من الحريات السياسية. وبالتالي، وبالرغم من وعود نتانياهو في الأيام الاولى وتصريحاته بأنه يتمنى مساعدة المحتجين له لتمرير مشروع اصلاح كبير لتسهيل عملية البناء وحل ازمة الإسكان المتفاقمة، فقد تكشف سريعا انه يكذب بعد ان تراجع عن وعوده وعطل تمرير قرارات حكومية لصالح المحتجين .
ويعلم المراقب ايضا انه لا توجد قوة اجتماعية مركزية في اسرائيل مستعدة ان تتبنى مطلب الاستحقاق السياسي لتحقيق مصالحها الإقتصادية والإجتماعية، بما فيها الحق في الصحة والسكن والتعليم وما الى ذلك، وذلك خوفا من اتهامها "بالخيانة" ورفع الشرعية عنها، وهذا ما يفسر ابتعاد غالبية المحتجين عن الشعارات السياسية واهتمامهم بإضفاء الطابع الإقتصادي-الإجتماعي على مضمون مطالبهم وشعاراتهم. اذن "اليسار" السياسي ضعيف امام حكومة يمينية اقتصاديا وسياسيا، واليسار الإجتماعي- الإقتصادي غير منسجم مع اليسار السياسي او يخشى او يرتبط به خشية اتهامه بالخيانة، وعليه فليس اليمين الحاكم في ازمة بل المعارضة هي التي تعاني من ازمة وهي ازمة الرؤيا المتكاملة. هذه هي "اليسار" الإسرائيلي منذ ان بدأت مسيرة اوسلو على الأقل وحتى اليوم، وهذه الأزمة تتفاقم اكثر واكثر وليس أمامها من أفق نجاح الا ان تربط مطالبها الاجتماعية –الاقتصادية بمطالب الحل سياسي، فكما ارتبط اليمين الإقتصادي مع اليمين السياسي، هكذا يجب ان قوى "اليسار" والا فهي خاسرة لا محالة. اقول هذا بالرغم من نجاح الحراك الشعبي ضد اسعار الوقود، وضد سعر الكوتج، لأن اسعار العقارات في صلب حياة رأسمال، وقد كان عاملا اساسيا لعبور اسرائيل الأزمة الاقتصادية العالمية دون ان تتأثر سلبا بل كانت مستفيدة منها.
اما عن مقارنة الحراك الشعبي الإسرائيلي بالحراك العربي فاوجه المقارنة تشير الى اتجاهين مختلفين يهدفان للوصول الى هدف واحد وهو الدولة بمفهومها الكلاسيكي، الدولة التي تعني تلك المؤسسة العليا او مجموع المؤسسات التي ينتجها الشعب للحفاظ على التوازن المطلوب بين القوي والضعيف، بين الغني والفقير، بين المتج وصاحب ادوات افنتاج، بين الحاكم والمحكوم، هذا الدولة قامت في فلسطيني عام 1948 قبل وجود الشعب ولكنها تتخلى اليوم عن مهامها لتصبح دولتين واحدة للفقراء واخرى للاغنياء، واحدة للضعفاء واخرى للأقوياء....على شاكلة الدول الرأسمالية ذات الاقتصاد الحر في العقدين الأخيرين، وبالتالي يتحرك الجمهور الإسرائيلي اليوم للتمسك بالدولة التي عاش فيها بمستوى من التوازن والرفاه ويريد ان يحافظ عليها. اما الحراك الشعبي العربي، وبما ان الشعوب العربية لم تنشئ دولها الكلاسيكية بعد، بل هي "دول" مملوكة لحكامها، عائلات وطوائف وزعماء ولهؤلاء المالكين توجد جيوش وشرطة وسجون وما الى ذلك، "دول" اشبه بالإقطاعيات المعروفة في التاريخ، وتبقى المهمة الأكبر والاهم للحراك الشعبي العربي هي اسقاط هذه الإقطاعيات، او الدول المملوكة، لينشئ مكانها دولا تمثل الشعب وترعى مصالحه وتقيم التوازنات المطلوبة بين فئاته وطبقاته المختلفة.
اليف صباغ
مدونة حيفا برس – 23.7.11



حقوق النشر محفوظة للكاتب ، الرجاء الإشارة إلى المصدر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق